|
المطران جورج خضر |
إلى
شبابِ بلادي
بَعْضُكُمْ وُلِدَ في الحرب، وبعضكم نشأ في
الحرب. وَرِثْتُمْ بلدًا أَسَأْنا إليه. الطَّبيعة الخلّابة الّتي هو عليها هي من
صُنْع اللّه، وشَوَّهْناها ولَوَّثناها. هي بين أيديكم مثْلُ التَّاريخ والدَّولة
والطَّبائع والأخلاق.
كُلُّ شيء في عِهْدَتكم لِتَسْتَعيدوا
جَمالَه بَعْدَ أن تكونوا قد آمنتم أنَّ الإنسان يستطيع الكثير. أنا لا أسْتَهينُ
بِوَطأة الزَّمنِ الرَّديء، وتردِّي أوضاعٍ تُحيطُ بنا، ولا نقدِرُ وَحْدَنا أن
نرفعها عن كاهِلنا. وأعرف كم تَقْسُو سياسةٌ لا أحَدَ منكم صانَعُها. غيرَ أَنِّي
مُوقِنٌ أَنَّ مسؤوليَّة التَّغيير في أَعناقكم إذا آمنتم بِقُدرتكم على نَقْلِ
الجِبال وتبديل ما لم نستطعْ نحن تبديلَه.
إيماننا هذا بكم مُرْتَبطٌ بإيمانكم أَنَّ
أَعظمَ الأشياءِ في العالم تَتِمُّ في الفِكْرِ والقلب، وأَنَّ السِّياسة تأْتي
تعبيرًا عن اهتداء القلوب. ولعلَّ خطيئة من سَبَقَكم، اعتقادُه أَنَّ السِّياسة
قائمة بنفسها، وأَنَّ الخير يأْتي منها مباشرةً، ولم يفهم أَنَّها هي تأْتي من
الخير. لعلَّ كثيرًا من الخَطَأ جاء من كون بعضِكم ظنَّ أَنَّه يقدر أَن يرميَ
نفسه في الوَحْلِ ويعملَ سياسة جيَّدة كأَنَّ الدَّولة شيء مُلْقًى خارج النَّفس
الطَّاهرة. لذلك أقْبَلُ تمرُّدكم على الجيل السَّابق، تَمَرُّدَكُمُ الكامِلَ. أَعذُرُكم
إن قَسَوْتُم على جِيلنا. واللّه سَيَدِينُنا بما هو أشَدُّ...
عندما يَشُقُّ الفجرُ اللَّيلَ يُولَد
اللَّامنتظَر.النُّور دائمًا أُعجوبة. هو لا يأتي من قلب اللَّيل. قد نكون
زَرَعْنا في نفوسكم عَتَماتٍ. قلتُ لكم أَنِ انْسَوْنا. انفُضُوا إذًا عنكم
الظَّلامَ لئلّا تقلِّدوا الأسلافَ في خطيئاتِهم. أرجو أَن يَتَفجَّر الضِّياء من
نفوسكم. ولكنَّ هذا يتطلَّب نُسْكًا شديدًا، حياة صارمة، فيها وَحْدَها تَعْقِدون
مَواعِدَ مع الحقيقة. الشَّبيبة متطلِّبةٌ جدًّا. هذا حقُّها ومِزاجها معًا.
كُونوا على ذلك. ولكنْ لن تَصيروا مُبْدِعين إن لم تتطلَّبوا الكثير من أنفسكم
لأنَّها هي المحتاجةُ إلى الانبعاث. هذا يعني مِراسًا شَرِسًا للاستقامة
والمجَّانية والخدمة. وكُلُّ هذا يلخّصه التَّطهُّرُ من حبِّ المال. لا تُغْوِكُمْ
وُصوليَّةُ اللُّبنانيِّين الَّذين بَنَوا مَجْدَهم على اشتهاء هذه الدُّنيا
وبَدَوا ناجحين. أَنا راعني ما سَمِعْتُهُ مِنْ مُراهِقِينَ لمَّا سأَلْتُهُم عن
الفُروع الَّتي يُحبُّون أن يَدرسُوها في الجامعة. بَكَيْتُ لمَّا قالوا لي
جميعًا: سنَدْرُسُ هذه المادَّة لأنَّها تُدِرُّ لنا مالًا كثيرًا. هذا ما فعلناه
قَبْلَكم وأنتجنا هذا البلدَ الهزيل.
مع ذلك عَرَفَ البَلَدُ قَبْلَكم مَنِ
اتَّخذ التَّقَشُّفَ مَنْهجًا بعد أَن اتَّخذ الحَقَّ والحُبَّ هَدَفًا. كان يرتضي
شَظَفَ العيش لِيَبْقَى كَريمًا، لئلّا يَتَبَذَّلَ عند مَنْ حُسِبَ عظيمًا. أنا
لا أَدعوكم إلى احتقار من طَفا على سطح الوُجود المجتمعيّ، فإنَّ الخاطئ يحتاج إلى
حَنان لِيَشْفَى. ولكنِّي أدعوكم إلى شَقِّ طريق آخرَ، طريق الإبداع من المعرفة
لأنَّ فيها فَرَحًا لا يَفُوقُه إلّا فَرَحُ التَّقْوى، وما أحلاهُما لوِ اجتمعا!
إنْ تَجَدَّدَ الرُّوحُ فيكم، فأحببتمْ
لبنان على نُفُوسكم، سيظهر وطنًا متجدَّدًا لا يقدر أحد أَنْ يَمْحُوَه بعد أَنْ
تكونوا قد أَقَمْتُمُوه على الجِدِّ. هذا يتطلَّب منكم إلى جانب الصَّحوةِ
الرُّوحيَّة الكبرى أن تعرفوا كثيرًا، أن تقرأوا كثيرًا، فلا يسحركم شيءٌ زائلٌ
ولا تأْسِرُكم لذَّةٌ عابرة. لبنان يطلب منكم كَدًّا كبيرًا. قد يكون بلد سياحة
للأجانب. أنتم لستم فيه سُيَّاحًا تَسْبي عقولَكم السَّيَّارةُ والتِّليفزيون
وإعلاناته، والحديث السِّياسيّ. والدِّراسة تقوم على أُمَّهات الكُتُبِ،
والتَّأمُّل الفكريّ المَضني، وتحصيل اللُّغات. أنا أعرف ما في سوق العمل من
صعوبةٍ، ولهذا سَتَتْعَبُون، ولكنْ لا بُدَّ من أن تَنْفَرجَ أَزماتُنا لأَنَّنا
أبناءُ الرَّجاء. المُهِمُّ في ذلك ألَّا تنهزموا أمامَ الشَّدائد، ولا تَكْرَهوا
من تَرَكَ لكم البَلَدَ هزيلًا. الكَراهية تؤذيكم إذ ليس فيها عطاء. القلوب
الكبيرة وحْدَها تَصْنَعُ التَّاريخ.
لا تَعيشوا أَشباحاً كما عاش مَن أَحَبُّوا
بلاغة الكَذِب، وآثَروا اهتراءَ البلد ليَسلمُوا في خِداع أنفسهم.
كُلُّ شيء يمكن أنّي صبح لكم جديدًا، لا
تهتمُّوا للظَّلام المُخَيِّمِ اليومَ. "فالنُّور في الظُّلمة يُضِيء".
اُسكنوا الفجرَ عند كُلِّ صَباح، وأَقيمُوا فَوقُ، ولو سارت أقدامكم على التُّراب.
اِغفِروا لنا دومًا، واغفِروا كثيرًا عَلَّنا نَصيرُ إلى فُتُوَّة الرُّوح الَّتي
فقدناها، فالغبارُ الَّذي تَمْسُّه أقدامكم لن يطلُعَ إليكم إذا كانت عيونكم شاخصة
إلى فوق حيث لا بشاعة. عند ذلك، الضِّياء الّذي تُبصرون ينزل على عقولكم وَهجًا،
وبين أيديكم عملًا، وتسلكون إلى السَّلامة.
منكم أنتم، يا شبَّان بلادي وشابَّاته،
سيطلُعُ لنا لبنانُ جديدٌ.
المطران جورج خضر
"لبنانيات" 1997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق