|
مي زيادة |
عندَ قدَمَي أبي الهَول
الأفقُ واسعٌ واسعٌ، واللّيلُ
عميقٌ عميقٌ، وأنوارُ المساكنِ وأضواءُ الشّهبِ، في أحشاء الدُّجى جراحٌ وحروق.
وأصواتُ المدينة تُحَدِّثُ عن أوصابِ المدينة جاهلةً ما عداها. لذلك جئت ناديَك
أَنْشُدُ الإختلاءَ وراء تلالٍ فصلَت بين عُمْرانِ البشرِ الضّاجّ المقيَّدِ وعُمْرانِك
المستقلِّ في حِضْن السّكوتِ غيرِ المتناهي.
تتتالى على البسيطة شعوبٌ
ودوَلٌ تأتي بالأديانِ والشّرائعِ واللّغاتِ والعاداتِ، وتتبارى في مَحْقِ عملِ
الأجيالِ زلازلُ وبراكينُ وصواعقُ وأوبئةٌ وثوراتٌ وزعازعُ وطوفانات. وأنتَ هُنا
رابضٌ أمامَ أهرامٍ انتصبَت في وجهِ الفضاء تَنْقُضُ أحكامَ الفناء. والهياكلُ تُلقي بين يديكَ حديثَ الدّهر بألفاظ الحجرِ والصَّوّانِ، وتُعَزِّزُه
بصُوَرِ الأربابِ الملوكِ والكُماة.
ههنا تَرْبِضُ فريدًا على وثيرِ
الرّمال في مملكتك الفيحاءِ مملكةِ الكِتمان والجلال والإِيماء، وعظَمةﹸ القياصرةﹺ
حديثةﹸ النّعمةﹺ دميمةٌ حيالَ عظمتِك المجرّدة الرّفيعة. والإِنسانُ الشَّغوفُ بِهَتْكِ
الأستار يدخلُ إيوانَ وَحْدَتِكَ السَّنِيّ.
وإذ يزفرﹸ طالبًا للحوادثِ تفسيرًا يقال له
«هذه هي الحياة»! «ما هذا إلَّا الحياة»، «لا تكون الحياة إلَّا كَذا». نعم، يا
أبا الأهوال السّاهيَ، إزاءَ الهبةِ والحِرمان، والوفاء والغدر، والبياض والسّواد،
والفَخار والمذلَّة، والغلَبة والإندحار، إزاءَ كلِّ مسرَّةٍ وكلِّ توجُّعٍ؛ التّفسيرُ
واحدٌ لا يتغيّر! إنّنا نفسّرﹸ الحياةَ بالحياة، ونداوي داءَ الحياة بمَصْلﹺ
الحياة، ونهربﹸ من الحياة لنجدَنا والحياةَ وجهًا لوجهٍ.
* * *
وأنا صورةٌ من ملايينِ صوَرِ
الحياة، نهضتُ أتفهَّمُ الحياةَ كما نهض جميعُ أولئك المساكين. وكما وقفتَ قديمًا
على طريق «طِيبةَ» تُلقي الأسئلةَ على العابرين، وقفتُ أسألُ أبناءَ السّبيل عن
معنى الحياة، فقال أحدُهم «هي صدرُ الأمّ».
فالتصقتُ بصدر أُمّي، فإذا أنا
منه في عُشٍّ دِفْءٍ وحرارةٍ وحِصْنِ مَناعةٍ وأمان، لا تُرْعِبُني الرّياحُ
العاصفة والرّعود الدّاوية والبروق الملعلِعةُ والسّيول المتدفّقة. ومرَّ يومٌ،
فضاق بي صدرُ أُمي، وعُدْتُ إلى موقفي أسأل «ما هي الحياة»؟
فأجاب مجيب: «هي الدّين والتَّقوى».
فبادرتُ أمرِّغُ جبهتي على
عتبة المذبح مُخْفِيَةً أداةَ التّقشُّفِ والإماتة تحت مُزَرْكَشِ الأثواب. وأقرَعُ
صدري مستغفِرةً عن آثامٍ لم أرتكبْها وذنوبٍ لم تخطُرْ على بالي. فناجتني الصّوَرُ
الصّامتة في أُطُرها، وهمسَت ليَ الصُّلبانُ بنِكال الحَرْبَةِ والمسامير. فمرَّ
يومٌ، وصدرُ الهيكل الّذي كان ليٍّنًا عطوفًا انقلبَ كالمرمرِ صلابةً وبُرودةً.
وصارتِ الطّقوسُ الدّينيّةُ ترتيبًا مسرحيًّا. وأرواحُ البَخورِ الّتي كانت تُنْزِلُ
عليّ فيضَ الإِلهام غدت مزعجةً كعطورٍ تنشرُها ذواتُ الذَّوق الكثيف، فعُدْتُ إلى
مكاني من السّبيل سائلة «ما هي الحياة»؟
فقال صوتُ الغرور: «وهل هي للفتاة غيرُ التِّيهِ
والدَّلالِ والتّظرُّف»؟
فمضَيتُ أُساجلُ مِرْآتي فتعشَّقتُ
صورتي فيها. ولم أكُنْ أُفارقُ تلك الصّورةَ إلَّا لأبحثَ عمّا يزيّنها ويُجمِّلُها. وكان يُبكيني مشهدُ الباكين، فأصبحتُ وقد تذوَّقتُ لذَّةَ اللّهو واللّعب
في نَسْلِ خيوطِ القلوب. ومرَّ يومٌ فأطلَّ شبحُ المللِ في عينيّ، فعدتُ أسألُ
أبناءَ السّبيل «ما هي الحياة»؟
فعلا صوتُ الحضارة في صفير
البخار وجلَبةِ الآلات وقال: «هي الثّروةُ والجاهُ العالميُّ وأُبَّهَةُ العمران».
فعدَوتُ في سبيل هذه، سوى أنّي لم أصرفْ
ساعةً حتّى تَحجَّرَ كياني، فعدتُ والضّجرُ يقتلني أسأل «ما هي الحياة»؟
فقال صوتُ العِلْمِ الرّزينُ: «أنا الحياة
لأني أشرح الحياة».
فألقيتُ بنفسي في الخضَمِّ الزّاخر
أُعالجُ العلمَ الماديَّ تارّةً والفلسفةَ الرّوحانية أخرى. كم من علمٍ خلقْنا أيُّها
المليكُ، لنبحثَ عمّا لا يُعْلَم! وكم من لغةٍ أبدعنا لنشرحَ ما لا يُشرحَ! فهداني الجهابذةُ إلى القوّة الّتي يتمُّ بها التّفاعلُ الكَونيُّ بين
الأجرامِ، فلا تتفلّتُ من عِناقها شمسٌ ولا ذرَّةٌ: الجاذبية. فسألتُ: وما هي هذه
الجاذبية؟ من رآها؟ من سمِعها؟ من لمسها؟ أهي وسيطٌ ينتقلُ على تموُّجِ الأثير، أم
هي سيّالٌ يتموَّج بنفسه مستقلاً عن العناصر؟ فأجابوا «ذاك سرُّ الحياة وهو مجهول».
الحياة!
مجهول! لفظتان تمثِّلان الإنفصالَ والإتِّحادَ جميعًا.
*
* *
يا وليدَ بابلَ أُمِّ السّحرِ والتّعاويذِ، إلى
أيِّ حقيقةٍ رَمَزَ بكَ الرّامزون؟ ولماذا جعلوا بين كفّيكَ درجاتٍ خفيَّةً تُفْضي
إلى سردابٍ امتدَّ وتاهَ في مَجاهلِ الأهرام؟ لماذا أودَعوا قلبَكَ مفتاحَ بابِ
الغَيبِ حيثُ كان العرّافون يستمعون للآلهة الهواتف؟ ولماذا لا يعرِفُ موضِعَ أصغَرِكَ
الأجْوَفِ منك سوى شفتيكَ المطْبَقتينِ على كَرِّ الأعقاب؟
أصحيحٌ أنَّ لُغْزَكَ لغزُ الدّهورِ أم خلَقَكَ
الإنسانُ رمزاً له؟ لقد أعطاك من الثّورِ الخاصرتَينِ مَكْمَنَ الغريزة الجَوْفيّة
الرّامزة إلى السّكوت، ومن الأسدِ براثنَ التّحمُّسِ والاستماتةِ الرّامزة إلى
الجرأة، ومن النَّسرِ الجناحينِ المحلِّقينِ في بعيد المدى الرّامزَينِ إلى
المعرفة، ومنه - من إنسانيّته - أعطاك الرّأس مشيرًا إلى التّبَصُّرِ والإرادة
المدرِكة المتغلبةِ على الغريزة والانفعال والخيال. فكيف يحصرُ فيكَ جميعَ هذه النّزعاتِ
الّتي تتجاذبه ولا يُضيف إليها ما بقي؟ لماذا لا يكون ابتسامُك الدّائم صورةَ
الأملِ المتجددِ أبدًا فيه؟ أَليس أنّه مثلُك لأنّك مثلُه؟ أَليس أنَّ في أعماقه
أبا هَوْلٍ شاخصًا أبدًا في السّمواتِ العُلى، كلَّما ظَفِرَ بفَجْرٍ وشروقٍ لَبِثَ
يتوقَّعُ بزوغَ كوكبٍ جديدٍ وشروقَ شمسٍ ساطعة؟
مي زيادة
«ظُلُمات وأشِعَّة» (۱٩٢٢)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق