تحديد النَسل
لماذا يطالب الإنسان بتحديد نسله، ولا تطالب بتحديد نسلها سائر المخلوقات؟
ألأنَّ الإنسان أقلّ وعيًا وحكمة منها؟ أم لأنّه بات يتّكل على وعيه وحكمته
وإرادته؟
من غير شكّ، لقد نسي الإنسانُ - أو هي مدنيّته المعلّبة والمخنّثة أنسته - أنّ الحياة أمّه ما زوّدته بشيء من وعيها
وحكمتها وإرادتها ليكبر عليها ويعلّمها كيف تسوس مخلوقاتها، بل ليفهمها وليتعلّم
كيف يسوس نفسه.
ونسي الانسان أنَّ الحياة ما جعلت من العلاقة الجنسيّة متعة فائقة حبًّا
بالمتعة لا أكثر، بل حبًّا بالنسل، وغيرة عليه من الانقراض ما دامت لها غاية من
بقائه. ولقد حدَّدت
الحياة مواقيت للعلاقة الجنسيّة بين الكائنات دون الانسان، ولم تحدّد مثل تلك
المواقيت له ليتعلّم بالخبرة أنَّ من الخير له أن يحدّد مواقيته بذاته كيما ينتهي
آخر الأمر إلى التغلّب على شهوته، فيصبح سيّد نفسه المُطلق.
لكنّ هذه المدنيَّة المخنَّثة التي تكره الحرمان من أيّ لذّة، وإن تكن
مميتة، قامت تقول للإنسان: "لا عليك يا ابن آدم! تمتّع ما شئت بلذّاتك، وإذا ابتليت من جرّائها بداء ما، فعندي لدائك دواء. وإن خشيتَ أن تختنق بنسلك الأرض، فعندي حبوب تُبيح
لك المتعة وتُريحك من النسل. لا عليك يا ابن آدم! عش كيفما شئت، وتمتّع بأيّما لذّة شئت، فإذا أصيب أيّ عضو من أعضائك بضرر
أو بتلف استبدلنا به غيره أفضل منه. عندنا المختبرات من كلّ نوع، وعندنا الأشعّة والراديوم والكوبالت، عندنا
المخدّرات والمنبّهات، عندنا أحدث المباضع والأدوات والعقاقير والمصحّات وجيوش
الأطباء. عِش كيفما شئت،
ولا تخش انتقام الطبيعة، فالعلم بات اليوم يُكيّف الطبيعة على هواه".
إنّ العفّة - وهي الحرمان
يفرضه الانسان على نفسه بملء إرادته - كانت وحدها كفيلة بحلّ مشكلة ازدياد الناس والخوف عليهم من المجاعة. ثمّ إنّنا إذا أضفنا إلى هذا اللون من الحرمان
حرمانًا من نوع آخر، وأعني الحرمان من البطر: بطر الأقوياء والأغنياء والمُترفين والمُتخمين
بالنسبة إلى الضعفاء والفقراء والمعذّبين والجائعين، سواء في ذلك الشعوب والأفراد،
لحُلّت مشكلة الانسان. فلو أنّ ما يُنفقه
الأوّلون على الجيوش والتسلّح، وعلى التقتيل والتدمير، وعلى الترفّه والتبرّج، لو
أنّ ذلك كان يُنفق على الأخيرين، لما كان في الأرض فقير واحد ولا جائعٌ واحد.
إنّني أقولها بكلّ جرأة: أعطني المليارات التي تُهدر في كلّ عام على الجيوش والحروب والأسلحة والمعدّات،
أعطني الملايين التي يبذرها المترفون والمتخمون في كلّ يوم على حفلاتهم ومآدبهم،
أعطني الثروات الطائلة التي تدفعها النساء ثمنًا لمساحيق تُقبّح ولا تُجمّل، أعطني
الأموال التي تُبعزقها الأمم على دعاوات تقطر سمًّا ودجلًا وبهتانًا، وأنا الكفيل
بأن أجعل حتّى الصحارى في الأرض تدرّ لبنًا وعسلًا لكلّ أبناء الأرض.
ما ضاق صدر الأرض، بل ضاقت بهم مدنيّة خلقوها من ألف شيء وشيء إلّا من
المحبّة والضمير والإيمان! إنَّها مدنيّة محبّتها في جيبها، وضميرها في بطنها، وإيمانها في مختبراتها.
ميخائيل نعيمة (بتصرّف)
الأعمال الكاملة: ابن آدم
دار العلم للملايين – بيروت
صاحب النصّ
ولد ميخائيل نعيمة سنة 1889، في بلدة بسكنتا القريبة من جبل صنّين في لبنان. وهناك تلقّى علومه المدرسيّة الأولى، ثمّ تسنّى
له أن يتابع تحصيله العلميّ في روسيا. انتقل بعد إنهائه لدراسته في روسيا، إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث
عاش ردحًا من الزمن أسهم فيه بنشاطات أدبيّة جمّة. من أبرز نشاطاته في هذه المرحلة من حياته،
اشتراكه مع مجموعة من الأدباء المهجريّين، من بينهم جبران خليل جبران وإيليّا أبي ماضي
ورشيد أيّوب، في تأسيس "الرابطة القلميّة" التي تركت أثرًا واضحًا في مسيرة الأدب العربيّ آنذاك. عاد نعيمة إلى لبنان بُعيد وفاة جبران في الولايات المتّحدة، ووضع أعمالًا
أدبيّة وفكريّة كثيرة. من مؤلّفاته "الغربال"، و"همس الجفون" و "مذكّرات الأرقش"، و"سبعون"، فضلًا عن "يا ابن آدم" الذي استلّ منه هذا النصّ. عاش ميخائيل نعيمة زهاء قرن من الزمن، وتوفّي في لبنان سنة 1988.
تحليل النص
ردحذفما المبررات التي تدفع بالكاتب الى وصف المدنية التي يعيش فيها بالمدنية المخنثة؟
ردحذفعنوان كل فقرة
ردحذفما العلاقة بين العنوان ومضمون النص
حذفكيف ينظر الكاتب إلى غاية الطبيعة من العلاقة الجنسية
ردحذف