من صور الشقاء
لا أدري أَيقوى
قلمي على تصوير المشاهد الثلاثة التي وقعت عليها عيناي أمس، أم يعجز عن ذلك لفرط التأثُّر
الذي سيطر عليّ، ولست أدري كيف تشتمل الدنيا على مثل هذا الشقاء الذي هزَّني
هزًّا، ولا يشعر أكثر الناس به، أم تُراهم يشعرون ويمرّون به غير حافلين؟
1- رأيتها تحمل
على ذراعَيها طفلًا هزيلًا يدور بشفتيه على ثديها، وثديها جافّ لا يدرّ له شيئًا،
وهي تُلهيه بيد وتمدّ يدًا للناس.
وقفت عندها
والمطر يتساقط، وهي تحمي رأس طفلها، ووجهه، ويديه العاريتين، وصدره المكشوف بجسمها
كلّه، وهو لا يبكي ولا يشكو ولكنّه يُدير فيما حوله عينين ذابلتين وشفتين تطلبان
أبدًا ما تطلبه شفاه الأطفال، والأمّ حائرة حيرة الطفل، بل أكثر، تغمره بنظرة،
وتعود إلى الناس بنظرات، والناس لا يقفون.
- أين أبوه يا امرأة؟
- مات.
- وأين تعيشين؟
- في الطريق.
- وهل تجدين دائمًا ما تقتاتين به، أنت والطفل؟
فنظرت إليّ
البائسة نظرة خلتها مديّة تعمل في جسدي وقالت: انظر. وكشفت لي عن
ساقيّ الطفل، فإذا بي أرى... ويا لهول ما رأيت،
عظمتين دقيقتين كأنّهما عودان يابسان!
2- وفي المساء،
خرجت من عملي ضيّق الصدر، وصورة تلك المرأة وطفلها لا تفارق رأسي، وكأنّه كان
مقدّرًا عليّ أن أقع على الشقاء حيثما توجّهت، فبصرت بولد لا يتجاوز العاشرة من
عمره واقفًا أمام طبق فيه كومة من "الترمس"، وكان المطر
لا يزال يتساقط، والولد ينتظر أمام ترمسه من يشتري منه، وقد أقبل الليل، واشتدّ
البرد، ولا أدري أيّ دافع كان يدفعني إلى الوقوف عند البائع المسكين، فبقيت في
مكاني مدّة من الزمن فلم أرَ أحدًا يتقدّم إليه، وأحسست أنّ الولد جائع. وفجأة أقبل شرطيّ،
فخاف الولد وحمل فرشه، وكرسيّ الفرش، وهرب من وجه ممثّل القانون، ولكنّه لفرط خوفه،
زلّت قدمه فسقط وتناثر الترمس أمامه، ورأيت الولد يزحف على الأرض يلتقط ثروته حبّة
حبّة، وقد يخرّ على قدميّ رجل ليخلّص الحبّة الواحدة من تحت حذائه، وما عسى أن
تأتي به حبّة الترمس من خير؟
3- وإنّي لسائر
في الشارع الذي يجاور منزلي، إذ بي أرى على كومة الأقدار، أمام بيت عال، ولدًا
صغيرًا وهرّة يفتّشان في الأقذار عمّا يبتلعان به، والولد يطرد الهرّة بيد، ويغوص
بالثانية على شيء في الأقذار؛ ولكنّ الهرّة أقدر منه على العمل، فقد وقعت على علبة
من علب السردين الفارغة، ما كاد الولد يراها بين براثنها حتّى هجم عليها وخلّصها
منها وأعمل لسانه بها، ولكنّ المسكين لم يكد يُدخل لسانه حتى جُرح جرحًا آلمه،
فصرخ صرخة مخنوقة سمعتها وحدي "آخ"، فتقدَّمتُ
منه، فهرب كما هربت الهرّة، وتابعت سيري إلى بيتي حزينًا منكسر القلب.
ربّاه كيف
يعيش البائسون؟ وهل يرى الناس أيّ شقاء يجثم في عطفه كلّ طريق؟ أم هل يسمع الموسَرون،
الجالسون على موائد الميسر والخمر والفجور، أنين الطفل، على ثدي أمّه الجافّ،
وصرخة الولد، وقد أدمت ثغره كومة الأقذار التي ولغ فيها كما تلغ الجرذان...
خواطر ساذج،
منشورات دار المكشوف، بيروت، 1943.
صاحب النص
خليل تقي الدين
أديب لبنانيّ، من طَليعة مُجدّدي أدب القصّة العربيّة، وُلِدَ في بلدة بعقلين في
لبنان سنة 1906. عمل في الصحافة والأدب، كما شغل عددًا من المناصب
الدبلوماسيّة، من بينها سفير لبنان في موسكو. له عددٌ كبيرٌ
من الكتابات الأدبيّة التي تميّزت بأبعاد إنسانيّة واضحة، سعى بها صاحبها إلى
إطلاق صرخات قويّة لإصلاح المجتمع أو لتبديل أحواله. من أبرز مؤلّفاته: "عشر قصص من
صميم الحياة"، و"الإعدام"، و"تامارا"، و"ينبوع الفنّ" و"خواطر ساذج". توفّي خليل
تقي الدين عام 1987، عن عمر ناهز الإحدى والثمانين.
جميل ولكن أين الأسئلة؟
ردحذفاين الاسءلة؟؟
حذفبالضَبط, و قد كان هناك أخطاءٌ مطبعيَة
حذفهل توجد الترجمة انجليزية
ردحذفاين الأسئلة
ردحذف