حقوق الإنسان: الأساس لكلّ
حضارة
إنّ كلّ القوانين والمواثيق التي نصّت على الحرّيّة والمساواة، حاولت إيجاد
توازن دقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، أو بين الحقوق الفرديّة والعدل الاجتماعيّ. فالفرد يميل إلى الحرّيّة، غير أنّ هذه الحرّيّة
قد تؤدّي إلى عدم المساواة. ولهذا يتدخّل المجتمع لتقييد الحرّيّة من أجل الحفاظ على المساواة.
والحرّيّة بالمفرد وبالمعنى المجرّد، تعني حالة الإنسان الذي لا يخضع
لإكراه. أمّا استعمال
الكلمة بالجمع ووصفها بالعامّة - الحرّيّات العامّة - فيدلّ إلى مجموعة من
الحقوق يتمتّع بها الإنسان تحت رعاية الدولة أو السلطات العامّة. وفي كلّ مرّة تتدخّل السلطات العامّة لإقرار
حقوق وحرّيّات للإفراد ووضع قواعد قانونيّة لها، ترقى هذه الحقوق والحرّيّات من
مرتبة الحرّيّة المجرّدة إلى مرتبة الحرّيّة العامّة. وبذلك تصبح العلاقة وثيقة بين الدولة والحرّيّات
العامّة.
وهنا يكمن الفرق الأساسيّ بين حقوق الإنسان والحرّيّات العامّة. فحقوق الإنسان حقوق طبيعيّة يمتلكها الإنسان
بحكم كونه كائنًا مجتمعيًّا. وهي ترافقه طوال مسيرة حياته. فمفهوم هذه الحقوق يقع، إذًا، خارج أطر القانون الوضعيّ. وذلك على العكس من مفهوم الحرّيّات العامّة.
إنّ الاكتفاء بمعرفة الحقوق، أو الإيمان بها، أو النصّ عليها في صلب
الدساتير لا يكفي لتأمين احترامها وضمان تطبيقها. ثمّ إنّ حقوق الإنسان ليست شعارات أو أمنيات أو موضوعات للمناقشة في الندوات والمنتديات، وإنما
هي جزء أو ركن أو عنصر من حياة الإنسان تمارَس بعفويّة ولا تختلف، من حيث الأهمّيّة،
عن الماء والهواء. وفي معرض الحديث
عنها لا يصحّ التمييز بين من يتمتّع بها ويدرك قيمتها ويعرف المواثيق التي كرّستها
وبين من حُرم منها وجهل أو تجاهل وجودها.
لقد كان العرب، حتّى قبل الإسلام،إاسهام كبير في بلورة مفهوم حقوق الإنسان
وتعزيزه بالمواقف العمليّة. ونكتفي بالإشارة إلى حدثين: الأوّل هو "حلف الفضول" الذي يعتبر أوّل جمعيّة عربيّة عرفها التاريخ للدفاع عن حقوق الإنسان. فقد ذكر ابن الأثير أنّ زعماء بعض قبائل قريش
تحالفوا أو تعاقدوا على ألّا يجدوا في مكّة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر
الناس إلّا أقاموا معه وكانوا على ظالمه حتّى تردّ عليه مظلمته. والحدث الثاني هو صرخة الخليفة الراشدي، عمر بن
الخطّاب، في وجه والي مصر، عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا؟".
إنّ المواثيق والاتّفاقات الدوليّة التي ترعى حقوق الإنسان قد ربطت ربطًا
محكمًا بين الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة،
واعتبرت أنّ هذا الترابط يؤدّي في النهاية إلى تحقيق العدالة والمساواة. وهي ربطت كذلك بين احترام حقوق الإنسان واستتباب
الأمن والسلام في العالم.
إنّ الأمم المتّحدة وجّهت عناية خاصّة إلى حقوق الإنسان في ديباجة ميثاقها
التي تبدأ بعبارات مؤثّرة: نحن شعوب الأمم المتّحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال من ويلات
الحرب... وأن نؤكّد من
جديد إيماننا بالحقوق الأساسيّة للإنسان وبكرامة الكائن البشريّ وقيمته... وأن ندفع بالرقيّ الاجتماعيّ قدمًا، وأن نرفع
مستوى الحياة في جوّ من الحرّيّة أفسح...
والمأخذ على الميثاق الأمميّ أنّه اكتفى بنصوص عامّة تدعو إلى تعزيز حقوق
الإنسان من دون التطرّق إلى تحديد هذه الحقوق وتصنيفها وتعيين الوسائل والأدوات
الكفيلة بحمايتها.
ولسدّ بعض الجوانب في هذا الفراغ أصدرت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة
الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. واذا كان بعضهم لا يعترف لهذا الاعلان إلّا بقوّة قانونيّة. وأهمّ هذه الاتّفاقات ثلاث: العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة،
وبروتوكوله الاختياريّ الذي يُتيح للأفراد التقدّم بالشكوى ضدّ الانتهاكات التي
يتعرّضون لها. وهذه الصكوك
الثلاثة أصبحت نافذة منذ العام 1976. وأكّدت الأمم المتّحدة على التلازم بين العهدين الدوليّين اللذين يتميّزان،
بخلاف الإعلان العالميّ، بأنّهما ملزمان للدول الموقّعة ويشتملان على إجراءات
تطبيقيّة يتوجّب على الدول الأطراف القيام بها.
مجلة الحكمة، العدد 36، حزيران 1998، بيروت. صص 610-63.
صاحب النصّ
ولد محمّد المجذوب في مدينة صيدا، في لبنان، سنة
1929، وحاز على شهادة الدكتوراه في الحقوق من فرنسا. عمل في التدريس والبحث الجامعيّ معظم سني عمره؛
فكان أستاذًا في القانون العامّ والعلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة من سنة 1958 إلى سنة 1993. وشغل، فضلًا عن هذا، عددًا من المناصب والمهامّ
الجامعيّة والحقوقيّة؛ فكان عميدًا لكلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة في الجامعة
اللبنانيّة، ورئيسًا لهذه الجامعة، وعضوًا في المجلس الدستوريّ في لبنان، ونائبًا
لرئيسه. والدكتور محمّد
المجذوب من مؤسّسي اتّحاد الحقوقيّين العرب، والجمعيّة العربيّة للعلوم السياسيّة؛
وله مؤلّفات وأبحاث عدّة في القانون الدوليّ، والقانون الدستوريّ، والعلاقات
الدوليّة، وحقوق الإنسان والحرّيّات العامّة؛ وما برح الرجل، للآن، ناشطًا في
مجالات الشأن العامّ والبحث والتأليف الأكاديميّين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق