سياسة قسم اللغة العربيّة

الاثنين، 26 مارس 2018

القفز في الجبال - جوزيف أبي ضاهر


               أَقْفِزُ في الْجبالْ                 أَقْفِزُ كالْغزالْ
              أَضُمُّ الزَهْرَ                     أَشُمُّ العِطْرَ
                              يَنْدَهُني الْجمالْ

              أُسابِقُ الطُّيورْ                 أُغَنّي في سُرورْ

              لِيَ الْجمالْ                      لِيَ الآمالْ
                           والأرْضُ والزُّهورْ

الخميس، 22 مارس 2018

حقوق الإنسان: الأساس لكلّ حضارة (الثانويّ الثاني - اجتماع واقتصاد)



حقوق الإنسان: الأساس لكلّ حضارة

            إنّ كلّ القوانين والمواثيق التي نصّت على الحرّيّة والمساواة، حاولت إيجاد توازن دقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، أو بين الحقوق الفرديّة والعدل الاجتماعيّ. فالفرد يميل إلى الحرّيّة، غير أنّ هذه الحرّيّة قد تؤدّي إلى عدم المساواة. ولهذا يتدخّل المجتمع لتقييد الحرّيّة من أجل الحفاظ على المساواة.
            والحرّيّة بالمفرد وبالمعنى المجرّد، تعني حالة الإنسان الذي لا يخضع لإكراه. أمّا استعمال الكلمة بالجمع ووصفها بالعامّة - الحرّيّات العامّة - فيدلّ إلى مجموعة من الحقوق يتمتّع بها الإنسان تحت رعاية الدولة أو السلطات العامّة. وفي كلّ مرّة تتدخّل السلطات العامّة لإقرار حقوق وحرّيّات للإفراد ووضع قواعد قانونيّة لها، ترقى هذه الحقوق والحرّيّات من مرتبة الحرّيّة المجرّدة إلى مرتبة الحرّيّة العامّة. وبذلك تصبح العلاقة وثيقة بين الدولة والحرّيّات العامّة.
            وهنا يكمن الفرق الأساسيّ بين حقوق الإنسان والحرّيّات العامّة. فحقوق الإنسان حقوق طبيعيّة يمتلكها الإنسان بحكم كونه كائنًا مجتمعيًّا. وهي ترافقه طوال مسيرة حياته. فمفهوم هذه الحقوق يقع، إذًا، خارج أطر القانون الوضعيّ. وذلك على العكس من مفهوم الحرّيّات العامّة.
            إنّ الاكتفاء بمعرفة الحقوق، أو الإيمان بها، أو النصّ عليها في صلب الدساتير لا يكفي لتأمين احترامها وضمان تطبيقها. ثمّ إنّ حقوق الإنسان ليست شعارات أو أمنيات أو موضوعات للمناقشة في الندوات والمنتديات، وإنما هي جزء أو ركن أو عنصر من حياة الإنسان تمارَس بعفويّة ولا تختلف، من حيث الأهمّيّة، عن الماء والهواء. وفي معرض الحديث عنها لا يصحّ التمييز بين من يتمتّع بها ويدرك قيمتها ويعرف المواثيق التي كرّستها وبين من حُرم منها وجهل أو تجاهل وجودها.
            لقد كان العرب، حتّى قبل الإسلام،إاسهام كبير في بلورة مفهوم حقوق الإنسان وتعزيزه بالمواقف العمليّة. ونكتفي بالإشارة إلى حدثين: الأوّل هو "حلف الفضول" الذي يعتبر أوّل جمعيّة عربيّة عرفها التاريخ للدفاع عن حقوق الإنسان. فقد ذكر ابن الأثير أنّ زعماء بعض قبائل قريش تحالفوا أو تعاقدوا على ألّا يجدوا في مكّة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلّا أقاموا معه وكانوا على ظالمه حتّى تردّ عليه مظلمته. والحدث الثاني هو صرخة الخليفة الراشدي، عمر بن الخطّاب، في وجه والي مصر، عمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا؟".
            إنّ المواثيق والاتّفاقات الدوليّة التي ترعى حقوق الإنسان قد ربطت ربطًا محكمًا بين الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، واعتبرت أنّ هذا الترابط يؤدّي في النهاية إلى تحقيق العدالة والمساواة. وهي ربطت كذلك بين احترام حقوق الإنسان واستتباب الأمن والسلام في العالم.
            إنّ الأمم المتّحدة وجّهت عناية خاصّة إلى حقوق الإنسان في ديباجة ميثاقها التي تبدأ بعبارات مؤثّرة: نحن شعوب الأمم المتّحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال من ويلات الحرب... وأن نؤكّد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسيّة للإنسان وبكرامة الكائن البشريّ وقيمته... وأن ندفع بالرقيّ الاجتماعيّ قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جوّ من الحرّيّة أفسح...
            والمأخذ على الميثاق الأمميّ أنّه اكتفى بنصوص عامّة تدعو إلى تعزيز حقوق الإنسان من دون التطرّق إلى تحديد هذه الحقوق وتصنيفها وتعيين الوسائل والأدوات الكفيلة بحمايتها.
            ولسدّ بعض الجوانب في هذا الفراغ أصدرت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. واذا كان بعضهم لا يعترف لهذا الاعلان إلّا بقوّة قانونيّة. وأهمّ هذه الاتّفاقات ثلاث: العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، وبروتوكوله الاختياريّ الذي يُتيح للأفراد التقدّم بالشكوى ضدّ الانتهاكات التي يتعرّضون لها. وهذه الصكوك الثلاثة أصبحت نافذة منذ العام 1976. وأكّدت الأمم المتّحدة على التلازم بين العهدين الدوليّين اللذين يتميّزان، بخلاف الإعلان العالميّ، بأنّهما ملزمان للدول الموقّعة ويشتملان على إجراءات تطبيقيّة يتوجّب على الدول الأطراف القيام بها.
                                                                                               
                                                                                                محمّد المجذوب
                                                       مجلة الحكمة، العدد 36، حزيران 1998، بيروت. صص 610-63.

صاحب النصّ

ولد محمّد المجذوب في مدينة صيدا، في لبنان، سنة 1929، وحاز على شهادة الدكتوراه في الحقوق من فرنسا. عمل في التدريس والبحث الجامعيّ معظم سني عمره؛ فكان أستاذًا في القانون العامّ والعلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة من سنة 1958 إلى سنة 1993. وشغل، فضلًا عن هذا، عددًا من المناصب والمهامّ الجامعيّة والحقوقيّة؛ فكان عميدًا لكلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة، ورئيسًا لهذه الجامعة، وعضوًا في المجلس الدستوريّ في لبنان، ونائبًا لرئيسه. والدكتور محمّد المجذوب من مؤسّسي اتّحاد الحقوقيّين العرب، والجمعيّة العربيّة للعلوم السياسيّة؛ وله مؤلّفات وأبحاث عدّة في القانون الدوليّ، والقانون الدستوريّ، والعلاقات الدوليّة، وحقوق الإنسان والحرّيّات العامّة؛ وما برح الرجل، للآن، ناشطًا في مجالات الشأن العامّ والبحث والتأليف الأكاديميّين.

تحديد النَسل - ميخائيل نعيمه (الثانويّ الثاني - اجتماع واقتصاد)



تحديد النَسل
لماذا يطالب الإنسان بتحديد نسله، ولا تطالب بتحديد نسلها سائر المخلوقات؟ ألأنَّ الإنسان أقلّ وعيًا وحكمة منها؟ أم لأنّه بات يتّكل على وعيه وحكمته وإرادته؟
               من غير شكّ، لقد نسي الإنسانُ - أو هي مدنيّته المعلّبة والمخنّثة أنسته - أنّ الحياة أمّه ما زوّدته بشيء من وعيها وحكمتها وإرادتها ليكبر عليها ويعلّمها كيف تسوس مخلوقاتها، بل ليفهمها وليتعلّم كيف يسوس نفسه.
ونسي الانسان أنَّ الحياة ما جعلت من العلاقة الجنسيّة متعة فائقة حبًّا بالمتعة لا أكثر، بل حبًّا بالنسل، وغيرة عليه من الانقراض ما دامت لها غاية من بقائه. ولقد حدَّدت الحياة مواقيت للعلاقة الجنسيّة بين الكائنات دون الانسان، ولم تحدّد مثل تلك المواقيت له ليتعلّم بالخبرة أنَّ من الخير له أن يحدّد مواقيته بذاته كيما ينتهي آخر الأمر إلى التغلّب على شهوته، فيصبح سيّد نفسه المُطلق.
لكنّ هذه المدنيَّة المخنَّثة التي تكره الحرمان من أيّ لذّة، وإن تكن مميتة، قامت تقول للإنسان: "لا عليك يا ابن آدم! تمتّع ما شئت بلذّاتك، وإذا ابتليت من جرّائها بداء ما، فعندي لدائك دواء. وإن خشيتَ أن تختنق بنسلك الأرض، فعندي حبوب تُبيح لك المتعة وتُريحك من النسل. لا عليك يا ابن آدم! عش كيفما شئت، وتمتّع بأيّما لذّة شئت، فإذا أصيب أيّ عضو من أعضائك بضرر أو بتلف استبدلنا به غيره أفضل منه. عندنا المختبرات من كلّ نوع، وعندنا الأشعّة والراديوم والكوبالت، عندنا المخدّرات والمنبّهات، عندنا أحدث المباضع والأدوات والعقاقير والمصحّات وجيوش الأطباء. عِش كيفما شئت، ولا تخش انتقام الطبيعة، فالعلم بات اليوم يُكيّف الطبيعة على هواه".
إنّ العفّة - وهي الحرمان يفرضه الانسان على نفسه بملء إرادته - كانت وحدها كفيلة بحلّ مشكلة ازدياد الناس والخوف عليهم من المجاعة. ثمّ إنّنا إذا أضفنا إلى هذا اللون من الحرمان حرمانًا من نوع آخر، وأعني الحرمان من البطر: بطر الأقوياء والأغنياء والمُترفين والمُتخمين بالنسبة إلى الضعفاء والفقراء والمعذّبين والجائعين، سواء في ذلك الشعوب والأفراد، لحُلّت مشكلة الانسان. فلو أنّ ما يُنفقه الأوّلون على الجيوش والتسلّح، وعلى التقتيل والتدمير، وعلى الترفّه والتبرّج، لو أنّ ذلك كان يُنفق على الأخيرين، لما كان في الأرض فقير واحد ولا جائعٌ واحد.
إنّني أقولها بكلّ جرأة: أعطني المليارات التي تُهدر في كلّ عام على الجيوش والحروب والأسلحة والمعدّات، أعطني الملايين التي يبذرها المترفون والمتخمون في كلّ يوم على حفلاتهم ومآدبهم، أعطني الثروات الطائلة التي تدفعها النساء ثمنًا لمساحيق تُقبّح ولا تُجمّل، أعطني الأموال التي تُبعزقها الأمم على دعاوات تقطر سمًّا ودجلًا وبهتانًا، وأنا الكفيل بأن أجعل حتّى الصحارى في الأرض تدرّ لبنًا وعسلًا لكلّ أبناء الأرض.
ما ضاق صدر الأرض، بل ضاقت بهم مدنيّة خلقوها من ألف شيء وشيء إلّا من المحبّة والضمير والإيمان! إنَّها مدنيّة محبّتها في جيبها، وضميرها في بطنها، وإيمانها في مختبراتها.
                                                                                                   ميخائيل نعيمة (بتصرّف)
                                                                                                   الأعمال الكاملة: ابن آدم
                                                                                                   دار العلم للملايين بيروت
صاحب النصّ
ولد ميخائيل نعيمة سنة 1889، في بلدة بسكنتا القريبة من جبل صنّين في لبنان. وهناك تلقّى علومه المدرسيّة الأولى، ثمّ تسنّى له أن يتابع تحصيله العلميّ في روسيا. انتقل بعد إنهائه لدراسته في روسيا، إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث عاش ردحًا من الزمن أسهم فيه بنشاطات أدبيّة جمّة. من أبرز نشاطاته في هذه المرحلة من حياته، اشتراكه مع مجموعة من الأدباء المهجريّين، من بينهم جبران خليل جبران وإيليّا أبي ماضي ورشيد أيّوب، في تأسيس "الرابطة القلميّة" التي تركت أثرًا واضحًا في مسيرة الأدب العربيّ آنذاك. عاد نعيمة إلى لبنان بُعيد وفاة جبران في الولايات المتّحدة، ووضع أعمالًا أدبيّة وفكريّة كثيرة. من مؤلّفاته "الغربال"، و"همس الجفون" و "مذكّرات الأرقش"، و"سبعون"، فضلًا عن "يا ابن آدم" الذي استلّ منه هذا النصّ. عاش ميخائيل نعيمة زهاء قرن من الزمن، وتوفّي في لبنان سنة 1988.

من صور الشقاء - خليل تقي الدين (الثانويّ الثاني - اجتماع واقتصاد)



من صور الشقاء

لا أدري أَيقوى قلمي على تصوير المشاهد الثلاثة التي وقعت عليها عيناي أمس، أم يعجز عن ذلك لفرط التأثُّر الذي سيطر عليّ، ولست أدري كيف تشتمل الدنيا على مثل هذا الشقاء الذي هزَّني هزًّا، ولا يشعر أكثر الناس به، أم تُراهم يشعرون ويمرّون به غير حافلين؟
1- رأيتها تحمل على ذراعَيها طفلًا هزيلًا يدور بشفتيه على ثديها، وثديها جافّ لا يدرّ له شيئًا، وهي تُلهيه بيد وتمدّ يدًا للناس.
وقفت عندها والمطر يتساقط، وهي تحمي رأس طفلها، ووجهه، ويديه العاريتين، وصدره المكشوف بجسمها كلّه، وهو لا يبكي ولا يشكو ولكنّه يُدير فيما حوله عينين ذابلتين وشفتين تطلبان أبدًا ما تطلبه شفاه الأطفال، والأمّ حائرة حيرة الطفل، بل أكثر، تغمره بنظرة، وتعود إلى الناس بنظرات، والناس لا يقفون.
-       أين أبوه يا امرأة؟
-       مات.
-       وأين تعيشين؟
-       في الطريق.
-       وهل تجدين دائمًا ما تقتاتين به، أنت والطفل؟
فنظرت إليّ البائسة نظرة خلتها مديّة تعمل في جسدي وقالت: انظر. وكشفت لي عن ساقيّ الطفل، فإذا بي أرى... ويا لهول ما رأيت، عظمتين دقيقتين كأنّهما عودان يابسان!

2- وفي المساء، خرجت من عملي ضيّق الصدر، وصورة تلك المرأة وطفلها لا تفارق رأسي، وكأنّه كان مقدّرًا عليّ أن أقع على الشقاء حيثما توجّهت، فبصرت بولد لا يتجاوز العاشرة من عمره واقفًا أمام طبق فيه كومة من "الترمس"، وكان المطر لا يزال يتساقط، والولد ينتظر أمام ترمسه من يشتري منه، وقد أقبل الليل، واشتدّ البرد، ولا أدري أيّ دافع كان يدفعني إلى الوقوف عند البائع المسكين، فبقيت في مكاني مدّة من الزمن فلم أرَ أحدًا يتقدّم إليه، وأحسست أنّ الولد جائع. وفجأة أقبل شرطيّ، فخاف الولد وحمل فرشه، وكرسيّ الفرش، وهرب من وجه ممثّل القانون، ولكنّه لفرط خوفه، زلّت قدمه فسقط وتناثر الترمس أمامه، ورأيت الولد يزحف على الأرض يلتقط ثروته حبّة حبّة، وقد يخرّ على قدميّ رجل ليخلّص الحبّة الواحدة من تحت حذائه، وما عسى أن تأتي به حبّة الترمس من خير؟

3- وإنّي لسائر في الشارع الذي يجاور منزلي، إذ بي أرى على كومة الأقدار، أمام بيت عال، ولدًا صغيرًا وهرّة يفتّشان في الأقذار عمّا يبتلعان به، والولد يطرد الهرّة بيد، ويغوص بالثانية على شيء في الأقذار؛ ولكنّ الهرّة أقدر منه على العمل، فقد وقعت على علبة من علب السردين الفارغة، ما كاد الولد يراها بين براثنها حتّى هجم عليها وخلّصها منها وأعمل لسانه بها، ولكنّ المسكين لم يكد يُدخل لسانه حتى جُرح جرحًا آلمه، فصرخ صرخة مخنوقة سمعتها وحدي "آخ"، فتقدَّمتُ منه، فهرب كما هربت الهرّة، وتابعت سيري إلى بيتي حزينًا منكسر القلب.
         ربّاه كيف يعيش البائسون؟ وهل يرى الناس أيّ شقاء يجثم في عطفه كلّ طريق؟ أم هل يسمع الموسَرون، الجالسون على موائد الميسر والخمر والفجور، أنين الطفل، على ثدي أمّه الجافّ، وصرخة الولد، وقد أدمت ثغره كومة الأقذار التي ولغ فيها كما تلغ الجرذان...
                                                                                           خليل تقي الدين
                                                              خواطر ساذج، منشورات دار المكشوف، بيروت، 1943.

صاحب النص
خليل تقي الدين أديب لبنانيّ، من طَليعة مُجدّدي أدب القصّة العربيّة، وُلِدَ في بلدة بعقلين في لبنان سنة 1906. عمل في الصحافة والأدب، كما شغل عددًا من المناصب الدبلوماسيّة، من بينها سفير لبنان في موسكو. له عددٌ كبيرٌ من الكتابات الأدبيّة التي تميّزت بأبعاد إنسانيّة واضحة، سعى بها صاحبها إلى إطلاق صرخات قويّة لإصلاح المجتمع أو لتبديل أحواله. من أبرز مؤلّفاته: "عشر قصص من صميم الحياة"، و"الإعدام"، و"تامارا"، و"ينبوع الفنّ" و"خواطر ساذج". توفّي خليل تقي الدين عام 1987، عن عمر ناهز الإحدى والثمانين.

لبنان الحرّيّة - شارل مالك - الثانويّ الثاني (اجتماع واقتصاد)



لبنان الحرّيّة
لا أقصد بهذا أنّ لبنان هو البلد الحرّ الوحيد، أو أنّ الحرّيّة فيه كاملة. لكنّ الإنسان يستطيع هنا أن يكون، نسبيًّا، إن شرًّا أو خيرًا، كما يُملي عليه ضميره، أو تدفعه إليه نزوته. هنا أعاشر من أشاء وأقرأ ما أشاء، وأراسل من أشاء، وأعتقد ما أشاء، وأنشر ما أشاء، وأعلّم ما أشاء، وأخطب ما أشاء. هنا تحترم كلّ فئة أو طائفة أخرى تمام الاحترام.
الحرّيّة تعني احترام الإنسان في كرامته الأصليّة التي لا تُنتزع منه، أيًّا كانت تقلّبات الدهر عليه. فوق، وقبل كونك يا أخي أيّ شيء آخر، فأنت إنسان، مثلي تمامًا في إنسانيّتك، إنسان بعقلك، وضميرك، وأحاسيسك، وآلامك، وقدرك قيم الوجود. فإذا احترم بحرّيّتك الكيانيّة، كإنسان، يعني أنّي أحترم نفسي. بالحرّيّة الإنسانيّة الكيانيّة الأصليّة، النابعة من الإحترام العميق للعقل والحقيقة، يكون لبنان ويبقى.
الصراع الحقيقيّ اليوم، هو بين المؤمنين بالحرّيّة الشخصيّة الكيانيّة المسؤولة الأصيلة، وبين الذين يرتعون في ظلّ هذه الحرّيّة بقصد استخدامها لمآرب أخرى. ولأنّنا جميعًا نعرف أنّ الأكثريّة الساحقة من الشعب اللبنانيّ سليمة تمامًا في موقفها من الحرّيّة الحقيقيّة، فأنا لا يخامرني أيّ شكّ في أمر من هو المنتصر في هذا الصراع في النهاية.
يُساء إلى الحرّيّة بأربع طرق:
-       يُساء إليها بالفوضى: وأنا أقرّ بأنّ الفوضى شائعة في التفكير، والحياة في لبنان، ولذلك فالحرّيّة فيه ناقصة.
-       يُساء إليها بالإباحيّة: وأنا أقرّ بأنّ إباحيّة أخلاقيّة متفشيّة في لبنان، ولذلك فالحرّيّة عندنا ناقصة.
-       يُساء إليها بالاستبداد: وبمقدار ما يوجد أيّ تعسّف أو استبداد في علائقنا بعضنا مع بعض، من دون أن
                                 يكون القانون بالفعل حرزنا الحريز ضدّ هذا التعسّف والاستبداد، فالحرّيّة هنا
                                 مشوّهة.
-       لكن ثمّة طريقًا رابعة للإساءة إلى الحرّيّة، أخطر من هذه جميعًا، أعني طريق الانحطاط( decadence degradation, degenerate).
فقد تستطيع أن تعالج الفوضى، وقد تستطيع أن تعالج الإباحيّة، وقد تستطيع أن تقوِّم الاستبداد، أمّا الانحطاط (decadence) فلا أعرف له علاجًا، سوى وقوف غير المنحطّين في وجهه، وهم يؤلّفون الأكثريّة الساحقة من الشعب اللبنانيّ.
         الحرّيّة مسؤولة: مسؤولة أمام نفسها، مسؤولة أمام التاريخ، مسؤولة أمام الله.
         الحرّيّة تردع نفسها عن الكذب، والتزوير، والظلم.
         الحرّيّة متبادلة ولذلك فهي تحترم تمامًا حرّيّة الآخرين.
         الحرّيّة تعرف أبسط أصول المعاملة، ولذلك فهي تتصرّف وتتكلّم باحترام.
         الحرّيّة لا تسفّ إلى مجاري الأقذار.
         الحرّيّة تعيش، في كلّ لحظة، في مخافة حكم التاريخ عليها.
         الحرّيّة ترتع في المحبّة وتترفّع عن كلّ بغضاء.
         من الحرّيّة الحقيقيّة وحدها يتدفّق كلّ خلق تاريخيّ باق.
وإذن، فالحرّيّة الكيانيّة الشخصيّة المسؤولة، هي التي تطبع لبنان بطابع مميّز، وبدون هذه الحرّيّة لا يوجد لبنان.

صاحب النصّ
شارل مالك، مفكّر وأكاديميّ وسياسيّ لبنانيّ. نال شهرة محلّيّة وعالميّة، ولد في بلدة بطرام في لبنان سنة 1906. مارس التدريس في الجامعة الأميركيّة في بيروت ردحًا من الزمن، كما شغل منصب وزير خارجيّة لبنان في السنوات الأخيرة من خمسينيّات القرن العشرين، وتولى عقب هذه المرحلة مهامّ رئاسة الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة. مثل لبنان في عدد كبير جدًّا من المحافل الدوليّة والإنسانيّة العالميّة، وكان من بين المساهمين في صياغة شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتّحدة. تميّز شارل مالك بكتاباته وآرائه ومواقفه ذات الرؤى الفلسفيّة والسياسية، وتوفّي سنة 1987.