سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

فوزي - نصّ للحلقة الثالثة


فوزي
       فوزي هو خالي، ولي معه قصّة تروى عن الإنترنيت. فهو حينما رسبتُ في البكالوريا، دعاني إلى تمضية بضعة أيّام في منزله الصّغير الّذي يعيش فيه وحيدًا في صريفا. قال إنّه يريد أن يصحبني إلى الصّيد. هناك، قال، من دون أن يكون بحوزتي بندقيّة، إنّ عليّ اصطياد الفرص، وإنّ الحياة رحلة صيد لهذه الفرص. أمّا وسائل صيدها، فهذا ما أختاره أنا بنفسي، أو تختاره لي الظّروف.
       فوزي حكيم أكثر من اللّزوم. يحاول أن يحمّل الأمور أكثر مما تحتمل، كثير التّشكيك إلى حدّ انعدام الثّقة، ولا مبالٍ في الظّاهر، لكنّه شديد التّورّط في الباطن. يُظهر انكفاءً عن بعض الأمور، لكنّه غالبًا ما يكون غارقًا فيها حتى العظم. في تلك الزّيارة، الّتي دامت يومين، ونمتُ خلالها ليلة واحدة في منزله الّذي تعمّه الفوضى، اقترحَ أن أعيش معه، وأن يسجّلني في المدرسة الّتي يعلّم فيها اللّغة العربية. قال إنّه يمكن أن يفرّغ لي غرفة من الغرفتين اللّتين يتألّف منهما المنزل، ويرتّبها كي تتلاءم وشخصيّتي. "يمكنك أن تفعل فيها ما تشاء"، همس لي، وأضاف، إنّ الصّبايا هنا في القرية جميلات. كنتُ خجولاً، ومع ذلك، في خيالي بدوتُ وقحًا في استعراض سيناريوهات البقاء لديه في هذا المكان، بعيدًا عن رقابة والديّ. زيادةً في الإقناع، اقترح أن يؤمّن لي كومبيوترًا وخط إنترنت إلى المنزل، لأتمكّن من ممارسة الهواية، الّتي يتّهمها أبي بأنّها كانت السّبب في رسوبي. كمقدّمة للبحث في هذا الإمكان، اصطحبني إلى مقهى إنترنت حديث العهد في القرية، كان الأوّل والوحيد، فيه ثلاثة كومبيوترات موصولة بالإنترنت.
       يومها جلست إلى الكومبيوتر، وبدوت كالملك. رحت أطبع وأدخل المواقع، وراح شبّان القرية يسألونني عن مساعدة هنا، واستشارة هناك، وكان فوزي يقف خلفي، باديًا عليه التّعجّب، شاعرًا بغربةٍ عن عالمنا هذا، الّذي لا يفقه منه شيئًا، ولا يقرب إليه بشيء. قال بعدما انصرفنا، إنّني لم أرسب في المدرسة، بل نجحت في الإنترنت. وقال إنّ هذا النّجاح، هو النّجاح الحقيقي. لم أعرف ما عناه يومها، وهل الأمر تشجيعًا، ودرءًا للآثار السّلبيّة للرّسوب، لكنّه قال بعدها، بنبرة من يعترف لكاهن، إنّه يفكّر أن يتعلّم الدّخول إلى هذا العالم، الّذي كان حينذاك في مرحلة الحبو، برغم السّرعة الّتي بدت لنا أعقد من أن نستوعبها.
       لم يكن فوزي جدّيًّا في شيء مما قاله لي في زيارتي القصيرة تلك. لم أقطن لديه، وكان هذا مستحيلاً بالنّسبة إلى رجل يعيش منذ أكثر من ثلاثين عامًا وحيدًا. لم يتعلّم الإنترنت، ولم يستقدم جهاز كومبيوتر إلى بيته. كان ذلك كسرًا لنمط حياةٍ، جهد فوزي لتكريسه وإرسائه، يستند إلى وحدته أوّلاً، وإلى علاقته المضبوطة والدّقيقة بالأشياء والأشخاص تاليًا. فعلاقته بالفيديو، كما بالتّلفزيون والرّاديو، تركن إلى اختراع الآخر الإفتراضيّ، الّذي يعلو صوته في البيت كأنّه يعوّض غياب العائلة. ففوزي لا يغمض له جفن بمعزل عن صوت التّلفزيون أو الرّاديو المرتفع. يرفع الصّوت عاليًا وينام، مطمئنًّا إلى وجود نبض في البيت، مستعيضًا عن الصّمت بالضّوضاء البشريّة الإصطناعيّة، الّتي تأتيه من المحطّات المتلفزة، أو إذاعات الرّاديو إذا عزّت الكهرباء.
       ذلك، ربّما، ما جعلني أعتقد بسهولة تكيّف فوزي مع العالم الإفتراضي، فأعدت عليه بعد سنوات اقتراحي بأن يشتري حاسوبًا محمولاً، ويصله بالإنترنت، ويدخل إلى ال"فايسبوك". ظنّي كان أنّ فوزي سيرحّب بالفكرة، الّتي لا بدّ ستُخرجه من رتابة عالمه التّلفزيوني الإفتراضي وشخصيّاته، وتدمجه في عالم افتراضي آخر يملأ عليه فراغ غرفته، من دون أن ينتهكه، كما هي حال التّلفزيون. لكن فوزي أبدى صدًّا عنيفًا للفكرة، وراح يهاجم ال"فايسبوك"، قائلاً إنّه لا يحتاج إليه لمعرفة النّاس والتّواصل معهم، وربط بينه وبين فكرة التّغيير، إذ إنّه سمع عن دوره في الثّورات العربيّة، وقال إنّه لم يعد يصدّق الثّورات، الّتي شارك في كثير منها، واستحالت خيبات. لهذا، ربّما، لا يأمن لل"فايسبوك"، لأنّه، ضمنيًّا، يخشى التّغيير . لم يقل فوزي، الّذي بدأ يقترب من عمر السّتين، ذلك صراحة، لكنّني أظنّه أراد أن يقول لي إنّه توقّف عن الصّيد من زمان وإنّ الوسيلة لا تعود مهمّة، حينما تنتفي الغاية.
رامي الأمين

"معشر الفسابكة"، دار الجديد،2012 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق