في حيّنا برج وهويّة ممزّقة
أمامه حديقة متواضعة، مزروعة
بكلّ نوع، من البرتقال والجمّيز والسّرو إلى الحبق، وفيها دجاجاته وقطّته. حديقةٌ
لبيت بقرميد أحمر، وبهو وغرف أربع. يملأ هذا المشهد عيني الرّجل بالرّضا، يرفع
رأسه إلى السّماء، يشكر الرّبّ على النّعمة، وينطلق إلى العمل في دكّان السّمانة
القريب. هذا يوم عادي في ثمانينات القرن الماضي، في حياة ريمون الّذي كان يعيش في
دار وحديقة ورثهما عن أبيه وجدّه. دار وحديقة متواضعان في منطقة الأشرفيّة، أنشئا
منذ أكثر من مئة سنة، ويطلاّن من هذه التّلّة على أحياء كثيرة من بيروت.
اليوم، "تغيّر كلّ
شيء" يقول الرّجل، "غرفي الخمس باتت واحدة، بتّ أعيش في غرفة في مبنى من
طبقات عشر، في منطقة لم تعد تشبهني، ولم تعد تشبه نفسها، لا أعرف إلاّ عددًا
قليلاً من ناسها ولا يعرفونني. منطقة لا أرى سماءها، وطبعًا... لا تراني".
المنزل والحديقة "ماتا... ماتا منذ مدّة
بعيدة"، يقول الرّجل. "لم يعودا سوى فكرة جميلة في بالي. فكرة خياليّة،
أحبّ أن أعود إليها كلّما اشتقت لدجاجاتي، وقطّتي ولرائحة زهر البرتقال الّتي
تعيدني إلى الوراء، وتنسيني حاضري".
"أنا لم أتغيّر"،
يقول. إنّما "كلّ شيء آخر تغيّر. الأشرفيّة تغيّرت وسيستمرّ هذا التّغيّر
الفوضوي كلّما خسر فيها إنسان بيته، وكلّما ارتفع فيها برج، وكلّما ازدهرت حياتها
اللّيليّة على حساب أهلها وناسها".
الرّجل يقول إنّ "حياة
النّاس تقلب رأسًا على عقب في اللّحظة الّتي يخسرون فيها بيوتهم. حياتهم لا تعود
حياة".
يروي العمّ ريمون قصّة منزله
ويقول إنّه "يروي تاريخ منطقة تتحوّل".
هل يتغيّر النّاس مع تغيّر
بيوتهم؟ هل تتغيّر الهويّة الاجتماعيّة لمنطقة مع تغيّر عمرانها وسكّان بيوتها أو
شققها؟ الأسئلة تجوز عن مناطق كثيرة من لبنان، وتحديدًا العاصمة، إنّما تشكّل منطقة
الأشرفيّة وجوارها، الصّيفي والرّميل والمدوّر، نموذجًا فريدًا لهذا التّغيّر،
لكثافته وسرعته وتحويره في شكل المدينة.
جهينة خالديّة
جريدة "السّفير" الاثنين 29 تشرين الأوّل 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق