سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

سارة - نصّ للحلقة الثالثة


سارة
لفّت سارة رأسها وكتفيْها بشالٍ صوفيٍّ أسود، وودّعت جلال وزوجته وولديْهما، ثمّ خرجت مسرعة إلى البيت قبل عودة عمّها من مجلس العبادة. كانت سهرة الأحد، أو كما يسمّيها الدّروز "ليلة الإثنين"، وكان موعدها مع التّلفاز لتشاهد برنامج "سوبر ستار"، وذلك سرًّا عن عمّها الّذي يذهب في مثل تلك اللّيلة من كلّ أسبوع إلى مجلس العبادة. همّت بقرع الباب، وإذ بالباب ينفتح ويطلّ منه وجه عمّتها الحانق، وصوتها الصّارم يؤنّبها: "أنت هنا؟ لماذا تأخّرت؟ عمّك أتى باكرًا وهو يغلي غضبًا".
       سرى الخوف في أوصال سارة وهي تتبع عمّتها. بدأ جسدها الرّقيق يرتعش خوفًا، وبدأت قدماها تتعثّران بأذيال ثوبها وهي تجتاز الممرّ المفضي إلى غرفته. كرهت ضعفها وتمنّت لو تموت لتتحرّر من هذا الأسر وجلاّده. بدأت تستنجد بربّها الّذي كتب عليها هذه الحياة المرّة، مع ذكرى أمٍّ غيّبها الموت وأب سائح في الدّنيا لا يُعرف له خبر وفي كنف عمّ متحجّر لا يعرف الرّحمة، وترجوه أن يرفق بها.
       سحبتها عمّتها من يدها وفتحت الباب وإذا بها وجهًا لوجهٍ أمام الغضب... وقفت مأسورة بنظراته المُتّقدة غيظًا. استفزّها هوانها، فسألت نفسها: "لِمَ أنا خائفة إلى هذا الحدّ من هذا المتلذّذ بالهروب من الحياة؟! أليست هذه هي اللّحظة الّتي تمنّيتُها ووعدتُ نفسي بها مرارًا لأنقذ روحي من أسرٍ قد يودي بي إلى الموت أو إلى الجنون؟! ممّ أنا جزعة؟ فما أتوقّعه من هذا الغضب أمامي، رغم بشاعته، سيكون ألطف حالاً من الوحدة والحرمان المحكومة بهما إلى الأبد". أومأ عمّها أبو محمود إلى أخته وزوجته لتنصرفا.
- أين كنتِ؟ قالها ونظراته تنزل كالسّياط على جسدها.
أرادت أن تصرخ بالحقيقة وتقول ملء فمها: "كنت أشاهد التّلفزيون وأشبع حرماني منه". لكنّها آثرت القول: "أساعد زوجة جلال في حياكة كنزة لابنتها قبل أن يهجم الصّقيع".
-        وكيف تبقين خارج البيت حتّى هذه السّاعة؟
-        إنّها العاشرة فقط، ولم أذهب بعيدًا. كنت في الطّابق السّفليّ!
-        حدودك عتبة هذا البيت إلى أن تتزوّجي.
ابتلعت خوفها وسألته بهدوء: "عمّي، ما الّذي يميّز حياتي عن حياتَي عمّتي وخالتي أمّ محمود؟"
-        وما وراء سؤالك؟
-        سؤالي واضح عمّي. أنا في العشرين من عمري وأعيش نمط حياة امرأتين على مشارف السّتين.
-        أنت تعيشين حياة البنت الشّريفة الطّاهرة، الحياة الّتي تليق بأخلاقنا لأنّنا نسلك شرع اللّه.
-        وكيف تعرف أنّني شريفة وأنت تسجنني في البيت؟ أطلقني في الحياة واختبرني. عندها سأثبت لك أنّني شريفة وأجعلك فخورًا بي.
-        أيّتها الجاحدة. أنا أريدك إنسانة فاضلة، أجنّبك الرّذائل وأنتِ تطالبين بها؟
-        الفاضل لا يكون فاضلاً بابتعاده عن الرّذائل، بل بعدم اشتهائها. وانا لا أشتهي الرّذيلة لأنّ إيماني نابع من عمق نفسي، ولا علاقة لقوانينك وللثّوب الّذي أرتديه بهذا الإيمان الصّافي.
-        من أين لك هذا الكلام؟ من علّمك هذا التّمرّد؟ أنطقي.
-        القهر والحرمان، عمّي. أريد أن أعيش الحياة كما يحياها النّاس. الحياة تتطوّر ونحن المتخلّفين قابعون خلفها، نجهل أبسط أشيائها.
ذهل أبو محمود من ثورة لم يتوقّعها من سارة الّتي ما عوّدته سوى الخضوع لقواعده وقوانينه، وفقد صبره، فاجتاز المسافة الّتي تفصلهما وصفعها صفعة لوت عنقها ثمّ دفعها إلى غرفتها وهو يصرخ بها بصوتٍ مدوٍّ: "أخرجي الكتب الّتي لوّثتْ لسانك بهذا الكلام".
              خافت سارة فأسرعت ورفعت الفراش لتكشف عن الكتب المرصوفة تحته. إلتفت أبو محمود إلى زوجته قائلاً: "ضعيها في كيس، ونادي جلال ليأخذها. قولي له أن يعطيها لمن يرغب، فتكون غذاءً سامًّا للّذين لا يعرفون دينهم".

عن "مرام" لفدى أبو شقرا عطاللّه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق