لماذا
يريدُ اللّبنانيّون الاستقلال؟
تلقّى رجالُ الدّركِ اللّبنانيون الّذين
يقومون على حراسةِ قلعة راشيّا أوامرَ عاجلةً بالانتقالِ، وحلَّ مكانَهم قنّاصةٌ
فرنسيّون بقبّعاتِهم الحمراءِ وثيابِ الميدان. وانتشرَ حولَ القلعةِ خيّالةٌ
بأفراسِهم السّوداءِ، بمعاطفِهم الكُحليّةِ ذاتِ الأزرارِ الفضّيّةِ اللّون. فقد
جاء البردُ مُبْكرًا هذا الخريفَ إلى راشيّا، وفوقَ جبلِ الشّيخِ المقابل، تمركزَ
الثّلجُ وانتشرَ على قِمَمِهِ يزيدُ برودةَ الرّيح المقبلة من العالي والأودية.
وشعرَ أهلُ البلدةِ أنّ ثمّةَ شيئًا يُعدُّ أو أنّ القلعةَ تنتظرُ ضيفًا غيرَ
عاديّ، لكنّهم مضَوا إلى شؤونِهم اليوميّةِ بين ساحةِ القرية وحقولِها. فقد
تعلّموا من تاريخ القلعةِ أنّ الفُضولَ ممنوع.
لم يبقَ من اللّبنانيّين في القوّة
العسكريّة العاملة سوى ضابطِ التّرجمة الملقّب "البوا". وكان
"البوا" نحيلًا، سامقَ العنق، مسطّحَ الرّأْس، يهوى التّنكيلَ بزملائه
والوشايةَ بهم وإرضاءَ الفرنسيّين في الصّبح وفي المساء. وقد امتعضوا منه كما
امتعضَ منه رفاقُه، ولم يحبّوه ولم يُظهروا له سوى الازدراء والاحتقار، لكنّهم
أغرقوه بالمكافآت والرُّتب. وكانوا يلقون إليه المكافأةَ كمن يلقي ثلاثينَ من
الفضّة تقديرًا لثمن الخيانة، إلّا أنّه لم يكن يمانع في ذلك. فقد كان رنينُ الكيسِ
يُنْسيه جرسَ العار.
جميعُ الضّبّاطِ الآخرين كانوا من
الفرنسيّين. لقد عرفتْ باريسُ كلُّها، وليس "المسيو هللو"، معنى هذه
المواجهة بين الدّولة الأمبراطوريّة وبين هذه الدّولة الصّغيرة الّتي ولدت قبل ٢٣
عامًا ، لكنّها لم ترَ النّور بعد. ولذلك لم تشأ باريسُ أن تتركَ شيئًا للصّدفة أو
لاحتمالاتِ أن يضعفَ العسكرُ اللّبنانيّون أمام قادتِهم ومشاعرِ الحريّة. ولم تعدِ
الأوامرُ تأتي من "قصر الصّنوبر" الآن. إنّها تأتي مباشرةً من "
شارل ديغول"، أو من نائبه، "جورج كاترو". لم يعدْ مسموحًا لأيِّ
فرنسيٍّ آخرَ بالتّصرّف في قرار المصير: إذا أخذَ لبنانُ حرّيّتَه المطلقةَ خسرتْ
فرنسا الشّرق. ربّما إلى الأبد. وخسرت معركةَ النّفوذِ الأبديّة مع البريطانيّين.
إنّ اللّبنانيّين لا يدركون، وهم يصرّون على الحريّة والاستقلال، أنّهم يكتبون
بذلك الخاتمةَ الاستراتيجيّة لحلم فرنسا بالمشرق.
كان ذلك هاجسَ فرنسا الحقيقيّ: طريق النّفط
الّذي يحلّ محلّ طريق الحرير وطريق البهارات والأفاويه. ولبنانُ لم يكن مهمًّا
لأنّه لبنان، بل لأنّه مدخلٌ إلى سوريا. وأهميّةُ سوريا أنّها جارةُ العراق،
وأهميّةُ العراق نفط الموصل في هذه الحرب الّتي تبحث عن بقايا الطّاقةِ وفُتات
الفولاذ ونثرات المعادن في كلّ مكان. فلماذا يريد اللّبنانيّون الاستقلالَ اليوم؟
لماذا ليس غدًا؟ ولماذا يدعمهم "سبيرز" بهذه الطّريقة؟ لماذا لا يكفُّ
عن استقبالِ اعداءِ فرنسا واحتضانِهم؟
سمير
عطا اللّه
"يمنى"،
دار النّهار للنّشر
بيروت
١٩٩٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق