(910 كلمات)
في
مثل هذه الأيّام وما يليها، من عام 1943، هبّ شعب لبنان ثائرًا، يعلن إرادته ويؤكّد
عزمه، أن يعيش حرًّا مستقلًّا، فكان نضاله في سبيل هدفه نضالًا رائعًا، موفّقًا،
وكان له ما أراد. وبالأمس هبّ شعب لبنان ذاته ثائرًا، يعلن إرادته
ويؤكّد عزمه، أن يعيش حياة صالحة لائقة بمواهبه وفضائله، فكان نضاله في سبيل هدفه
نضالاً رائعًا موفقًا، وسيكون له ما يريد. وإذا كانت ثورة لبنان
الأولى اصطبغت بدماء الشهداء الزكيّة، فإنّ ثورة لبنان الثانية تميّزت، في أيّامها
الثلاثة التاريخيّة، بأنّها لم ترق فيها نقطة واحدة من دماء الشعب.
ولا ريب أنّ تجنيب البلاد ويلات الصراع الطويل الدامي، يرجع الفضل فيه إلى تضامن الشعب المنقطع النظير، وإلى جرأة وحنكة وأصالة رأي نفر كريم منكم، ومن عيون المواطنين، تولّى دفّة الحركة الشعبيّة، ودفّة سفينة الحكم، حتى اجتمعتا عند غاية واحدة، وإلى وطنيّة اللواء قائد الجيش العام وحكمته، فإنّه بتدخّله الحازم، وبتمسّكه بالدستور وروح الدستور، أدّى للبلاد خدمة عظمى، وسجّل أمثولة بليغة في التجرّد والنزاهة.
وإنّه
لشرف عظيم لي، قلّدني إيّاه مجلسكم بوضعه ثقته في شخصي الضعيف، وانتخابي لرئاسة
الجمهوريّة، فإلى حضرتكم أقدم جزيل امتناني وأصدق تقديري لهذه الثقة وهذا الشرف.
ومن
منبركم أرفع شكري الحار، وإعجابي العظيم، وحبي المخلص، إلى شعب لبنان الوديع
المسالم، شعب لبنان الأبيّ المقدام، لإنّه كلّما اشتدّت الأزمات، وثقلت على كاهله
الملمات، طلع على العالم بالبرهان الساطع على أنّه شعب يقنع ولا يخدع، يصبر ولا
يخنع، يعرف، ويميّز، ويريد، ويقول ويفعل.
وإنّي
أشعر أنّه يتوجب عليّ، منذ الساعة، أن أعلن لكم ولشعب لبنان، ما أراه في رئاسة
الجمهورية، وما أنويه. إنّ هذه الرئاسة تكليف وخدمة، ليست مكافأة ولا رتبة، فهي تحمّل مُتَولّيها
واجبات وأعباء، ولا تدرّ عليه منافع أو تمنحه امتيازات. إنّ رئيس الجمهورية لن
يسمى رئيس البلاد، ولا بالأحرى سيّد البلاد، فأمثال هذه الألقاب تنافي أسس
الجمهوريّة والديموقراطيّة، وتحطّ من كرامة الشعب، الذي لا سيد سواه.
إنّ
رئيس الجمهورية لن يحاط بمظاهر العظمة والفخفخة، فهذه المظاهر لا تنافي أسس
الجمهورية والديموقراطية فقط، بل هي أيضًا تكلّف الشعب نفقات ليس ملزمًا بها، ولا
قادرًا عليها، بينما يشكو الكثيرون من أبنائه البطالة والفاقة.
إنّ
رئيس الجمهورية لن يستفيد من أيّة إعفاءات جمركيّة أو ماليّة أو سواها، بل سأسعى
لإلغاء هذه الامتيازات المجحفة بحقوق الخزينة، والتي لا مبرر معقولاً لها.
إنّ
رئيس الجمهورية لن يضع يديه على أموال سريّة تنفق بدون رقابة.إنّ رئيس الجمهورية لن يحتمي بنصوص القانون ضدّ حرية الفكر والنشر، فالحماية والحصانة الضروريتان لرئاسة الجمهورية يجب أن تقوما على مسلك وأعمال مُتولّيها، فيكفلهما حسن التقدير والرضى، لا خوف العقاب.
أيّها الإخوان:
إنّ
للشعب أهدافاً ثار من أجلها، وهو يتوقّع من العهد الجديد تحقيقها.
إنّ
الشعب يطلب القضاء سريعًا، بدون هوادة ولا رحمة، على الفساد والفوضى المنتشرين في
كل مرافق الدولة والبلاد، ويطلب تطهيرها من أدرانهما ومن أسبابهما، وليس والحمد
للَّه في أخلاق اللبنانيين أو تقاليدهم أي فساد متأصّل.
إنّ
الشعب يطلب الخلاص من النعرات والأحقاد التي غذّتها سياسة التمييز والاضطهاد، ونمّتها
أساليب الحكم المفسدة للضمائر، فالبلاد في أمس الحاجة إلى الانصاف، فالتصافي
والوئام.
إنّ
الشعب يطلب أن تُصان حرمة القضاء، وهو الملجأ الأخير والأقدس، فيبقى منزّهًا مُرفّعًا
عن كلّ تأثير، يتساوى أمامه المحكوم والحاكم، الضعيف والقوي، دون أيّ اعتبار لجاه
أو سطوة أو حزبيّة.
إنّ
الشعب يطلب إدارة داخليّة تمتاز بالبساطة والاستقامة والكفاءة، تخدمه بإخلاص وسرعة
وبلا محاباة، فالإدارة في حاجة إلى التطهير والتنظيم، وإلى تعيين حقوق موظّفيها
وحمايتهم، حتّى يؤدّوا واجباتهم في ثقة واطمئنان، وإنّي أطمع للبنان بجهاز إداريّ،
عصري، صالح، مثاليّ، يبقى في البلاد أداة ثابتة يستند إليها، ويستعين بها، على
قضاء المصلحة العامة، دون سواها، كلّ من تولّى الأحكام.
إنّ
الشعب يطلب قانونًا انتخابيًّا تنبثق عنه سلطة تشريعيّة تماشي نهضة البلاد وروح
العصر، وتمثّله تمثيلاً لا يفسح مجالاً للطعن في صحته، فتزداد بذلك هيبة هذه
السلطة، ويتأيد احترامها، وتغدو قديرة على القيام بواجبيها، التشريع ورقابة السلطة
الإجرائيّة، بكل جرأة وحرية.
إنّ الشعب يطلب التشريع
الإصلاحي التوجيهي السريع، في شتّى شؤون حياته وميادين نشاطه، يطلب العدالة
الاجتماعيّة في كل معانيها ونواحيها، يطلب الحماية من الفقر والبطالة والعجز والمرض،
يطلب سياسة ماليّة مقتصدة، وسياسة اقتصاديّة بعيدة النظر، مبنيّة على أسس علميّة
سليمة، وسياسة تربويّة تخلق من النشء نساء ورجالاً منتجين، ومواطنين متعاونين، لا
دمى متخاذلة وطفيليّات مستوظفة متحاسدة.
إنّ
الشعب يطلب أن يسود الإخلاص في الأخاء والتعاون علاقات لبنان بالدول العربيّة كلّها،
وفي مقدمتها الشقيقة سوريا، على أن يكون هذا التعاون صادقًا جديًّا فعّالاً، فيؤدّي
إلى منفعة كلّ دولة منها خاصة، وإلى منفعتها المشتركة عامة، ويرفع هيبة الجامعة
العربيّة، ويقدّرها على حل قضاياها، وعلى أن تعمل من أجل فلسطين ما يجب أن تعمله،
وما لم تعمله حتى الآن.
إنّ هذا الوطن الذي دعم كيانه، في سنة 1943 بالميثاق الوطني المعقود بين فئات من
المواطنين فرّقتها السياسة وحدها، باسم الطائفيّة، يريد أن يسمو بأبنائه فوق
العهود والمواثيق، فما هم بعدُ فئات متعدّدة تتّفق أو تفترق. بل شعب واحد يتساوى أفراده في الحقوق وفي
الواجبات، ويتساوون في الغيرة على لبنان وكيانه.
إنّ لبنان يريد حياة جديدة. بأساليب جديدة تدفعها روح جديدة، روح المحبّة بين
المواطنين، وروح الإخلاص والتجرّد بين الحاكمين، وروح النهضة والجدّ والاجتهاد لدى
الجميع، فإنّ أمامنا هدفًا ساميًا، هو أن نعيش في طمأنينة وسعادة، وفي احترام
وكرامة، متمتّعين بكامل حريّاتنا العامّة والخاصّة. وأن
يلحق لبنان بموكب الشعوب الراقية، ويحتل مركزه في طليعتها، بلداً تزينه كل الفضائل
التي تفخر بها كبار الأمم.
هذا
هو الهدف الذي ألتمس، في بداية هذا العهد الجديد، معونتكم الصادقة، ومعونة كلّ
اللبنانيّين المخلصين، من مقيمين ومغتربين، على تحقيقه، وما أنا، بالأمس، واليوم،
وغدًا، إلّا خادمه الأمين.
عاش
لبنان.
(تصفيق)
وإنّي
أختم كلامي بعبارة شكر صادرة من صميم قلبي إلى الزميل الكريم الأستاذ حميد فرنجيه
للعواطف النبيلة التي أبداها في هذه الآونة الأخيرة وفي هذا الاجتماع، ولا ريب فإن
الأستاذ حميد فرنجيه قد برهن مدّة توليه مصالح البلاد العامة عن تلك الخصائل التي
نعرفها جميعًا والتي تجعله من قادة الرأي العام في البلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق