سياسة قسم اللغة العربيّة

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

خطاب قسم الرئيس بشارة الخوري - 1943 (الرئيس الأوّل بعد الاستقلال)


(582 كلمة)
     حضرة الرئيس، حضرات النوّاب المحترمين

     عندما رفعتني ثقتكم الغالية إلى سدّة الرئاسة الأولى شعرت بعظم التبعات التي ألقيت على عاتقي منذ الآن. وما من شكر أوجّهه إلى حضراتكم إلّا يضاعفه حرصي على تحقيق ثقة الشعب اللبنانيّ الذي تمثّلون. وإنّها لثقة سنكون جميعنا جديرين بحملها بإذن الله حين نجرِّد لخدمة لبنان في هذه الساعة الخطيرة، قوانا ونشاطنا وأخلاصنا جميعًا. 

     لقد كان لبنان وما يزال نزّاعًا إلى الاستقلال حريصًا على الألفة والاتّحاد وتحقيق النظام والسلام والتوازن والوئام بين أبنائه وذلك بمساعدة اللبنانيين من دون استثناء أحد منهم، وإنّنا لن نألوا جهدًا في البلوغ بوطننا إلى درجة يشعر معها بخطورة الدور الذي يمثّله بين الأمم وتصبح أمانيه كلّها حقائق ملموسة.

     وبديهيّ أنّنا لن ننسى أيًّا من أصدقائنا وتقاليدنا ولكنّنا نعلم أنّ الصداقة الحقيقيّة لا تتعارض أبدًا وحقّنا في الاستقلال، ولا تتعارض كذلك مع إرادة شعب فخور بحريّته، ذي ماض مليء بالحضارة، كالشعب اللبنانيّ الذي لم يكن يومًا من الأيّام يقيس كرامته وشرفه بمقياس مساحة وطنه الصغير. فأسأل الله عزّ وجلّ أن يعيننا على خدمة هذا الوطن اللبنانيّ المستقلّ المتمتّع بسيادته كاملةً غير منقوصة مهما تكن التضحية في سبيل هذه الخدمة كبيرة، هذا الوطن اللبنانيّ الذي نضع حبّه فوق كلّ شيء، والذي يجب أن يظلّ للبلدان العربية الشقيقة المحيطة به جارًا أمينًا وأخًا صادقًا تربطه بها روابط تعاون يسوده الودّ والاخلاص.
     إنّ الواجبات الملقاة على عاتقنا خطيرة ومتعدّدة، وتطوّر الحرب هذا التطوّر الواضح لكلّ ذي عينين يملي علينا خطّة سياسيّة مناسبة مرسومة لنا بجلاء. ولقد جعلتنا تقلّبات هذه الحرب العالميّة الشاملة نلمس الدور الخطير الذي لعبته بلادنا الصغيرة والأهميّة التي كانت لبلادنا ولا تزال في أعين الدول العظمى.
     وإنّا لَمدينون للحلفاء بجميل لا يُنسى فهم الذين جنّبوا بلادنا ويلات الحرب وحالوا بينها وبين أن تصبح ساحة قتال يسودها الخراب والدمار، وهم الذين يحاربون في سبيل الحقّ والعدالة وقوى الروح ويقاتلون القوى الغاشمة قتال الجبابرة حتى أصبحوا من النصر قاب قوسين أو أدنى.
     وسيكون بيننا وبين الحلفاء في الغد، كما كان بيننا وبينهم في الأمس تعاون يقودنا شيئًا فشيئًا إلى الاتّصال بجميع الهيئات السياسيّة في العالم إذ ليس من عزلة ممكنة بعد اليوم لدولة من دول الأرض، صغيرة كانت أم كبيرة، فعلى كلّ أمّة حريصة على المحافظة على كيانها أن تخرج من عزلتها وتفهم حقائق الأمور فهمًا إنسانيًّا شاملاً. وإنّنا سنبذل الجهد لفهم هذه الحقائق الحديثة ونحاول أن لا ندع الحوادث تسبقنا بل نسايرها ونماشيها.
     وبين الدول الحليفة الكبرى نرى فرنسا اليوم ذات الماضي المجيد والدولة التي تربطنا بها صداقة تقليديّة، ولو ملومة، فلها كل عاطفتنا وشعورنا الصادق. وإني لأتوجه إلى اللَّه بتمنيات لبنان أن يأخذ بيدها ليقيلها من عثرتها فتستعيد مجدها العظيم بين دول العالم الظافرة ويظل شعاعها غامرًا أنحاء المعمور بفضل جهود قائدها العظيم الجنرال ديغول وكبار معاونيه.
     وأحيي بكلّ اعجاب صلابة الشعب البريطاني العظيم الذي أنقذ العالم حين هدّدته القوى الغاشمة يوم خيّم شبح الانكسار على العالم المتمدّن وأحيي رئيسي البلدين الديمقراطيين روزفلت وتشرتشل اللذين أبرما ميثاق الأطلنطيك المشهور ضمانة لكلّ شعب صغير يتوق إلى حريته واستقلاله.
     فإلى فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأميركية وإلى باقي الدول الحليفة أطيب تمنياتنا بنصر رائع قريب.
     حضرات النواب، 

    إنّ لبنان لفخور بأنّه كان على كَرَّة العصور معقلاً من معاقل الحريّات الأساسيّة والثقافة الخالصة، ولكلّ لبنانيّ أن يعتزّ اليوم بأنّه يُتم هذه السلسلة المجيدة وبأنّ أبناء لبنان الضاربين في أنحاء المعمور يمثّلونه خير تمثيل. فإلى جميع اللبنانيين الغائبين، إلى مهاجرينا الأعزّاء، أوجّه باسم الأمّة اللبنانيّة تحيّة لبنان وعاطفة تعلّقه الدائم الذي لا تنفصم عراه.

     وقبل أن أختم كلمتي هذه أنتهز فرصة حضور فخامة الرئيس بترو طراد هذه الجلسة لأوجّه إليه تحيّة خالصة تنمّ عن عاطفة صادقة وتقدير كبير.
     إنّني بهذه العاطفة أجدّد أمامكم العهد على خدمة لبنان بتجرّد وعدالة تامَين وتفان لرفاهية وعظمة وطن في سبيله نحيا ونموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق