الدّهر والأمّة
على سفح لبنان بقرب جدول ينسلّ بين الصخور
كأسلاك فضيّة جلست راعية يحيط بها قطيع غنم مهزول يرتعي الأعشاب اليابسة بين
الأشواك الغضّة، صبيّة تنظر نحو الشفق البعيد كأنّها تقرأ مآتي الآتي على صفحات
الجوّ وقد نمق الدمع عينيها مثلما ينمق الندى أزهار النرجس، وفتح الآسى شفتيها
كأنّه يريد سلب قلبها تنهّدًا.
ولمّا جاء
المساء وأخذت تلك الروابي تلتفّ برداء الظلّ وقف أمام الصبيّة فجأة شيخ يتدلّى شعره
الأبيض على صدره وكتفيه حاملاً بيمينه منجلاً وقال بصوت يحاكي هدير الأمواج: سلام
على سوريا.
فوقفت
الفتاة مذعورة وأجابته بصوت يقطعه الوجل ويصله الحزن قائلة:
ماذا تبتغي
الآن منّي أيّها الدهر؟
ثمّ أومأت
نحو أغنامها وزادت: هذه بقايا قطيع كان يملأ الأودية. هذه فضلة مطامعك فهل جئت
لتستزيد منها؟
هذه هي
المسارح الّتي أجدبها دوس قدميك وقد كانت منبت الخصب والرزق. كانت نعاجي ترتعي
رؤوس الأزهار وتدرّ لبنًا زكيّت فها هي الآن خمص البطون تقضم الأشواك وأصول
الأشجار مخافة الفناء.
اتقِ الله
يا دهر وانصرف عني فقد كرّهتني الحياة ذكرى مظالمك وحبّبت إليّ الموت قساوة منجلك.
اتركني ووحدتي أرشف الدمع شرابًا وأتنشّق الحزن نسيمًا
واذهب يا دهر إلى الغرب حيث القوم في عرس الحياة وعيدها ودعني أنتحب في مآتم أنت
عاقدها.
فنظر
الشيخ إليه نظرة الأب وقد أخفى منجله طيّ أثوابه وقال:
- ما أخذت منك يا
سوريا إلاّ بعض عطاياي وما كنت ناهبًا قطّ بل مستعيرًا أردّ، ووفيًّا أُرجع.
واعلمي أنّ لأخواتك الأمم نصيبًا باستخدام مجد كان عبدك، وحَقًّا يلبس رداء كان
لك. أنا والعدل أقنومان لذات واحدة، في محبّتي، لأنّ المحبّة لا تنقسم إلاّ على
السواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق