سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 31 يناير 2017

مناحة في الحقل (23 - من كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران)

لوحة لجبران خليل جبران

مناحة في الحقل
        عند الفجر قبيل بزوغ الشمس من وراء الشفق جلست في وسط الحقل أُناجي الطبيعة. في تلك الساعة المملوءة طهرًا وجمالاً بينما كان الإنسان مستترًا طيّ لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة واليقظة أخرى كنت متوسّدًا الأعشاب أستفسر كلّ ما أرى عن حقيقة الجمال وأستحكي ما يرى عن جمال الحقيقة.
        ولما فصلت تصوّراتي بيني وبين البشرّيات وأزاحت تخيّلاتي برقع المادّة عن ذاتي المعنويّة شعرت بنموّ روحيّ يقرّبني من الطبيعة ويبيّن لي غوامض أسرارها ويفهمني لغة مبتدعاتها.
        وبينما كنت على هذه الحالة مرّ النسيم بين الأغصان متنهدًا تنهّد يتيم يائس، فسألت مستفهمًا: لماذا تتنهّد يا أيّها النسيم اللطيف؟
فأجاب: لأنّني تتعلّق بأذيالي النقيّة مكروبات الأمراض وتتشبّث بي أنفاس البشر السامّة. من أجل ذلك تراني حزينًا.
        تمّ التفتُّ نحو الأزهار فرأيتها تذرف من عيونها قطرات الندى دمعًا، فسألت: لماذا البكاء يا أيتها الأزهار الجميلة؟ فرفعت واحدة منهنّ رأسها اللطيف وقالت: نبكي لأنّ الإنسان سوف يأتي ويقطع أعناقنا ويذهب بنا نحو المدينة ويبيعنا كالعبيد ونحن حرائر، وإذا ما جاء المساء وذبلنا رمى بنا إلى الأقدار. كيف لا نبكي ويد الإنسان القاسية سوف تفصلنا عن وطننا الحقل؟
        وبعد هنيهة سمعت الجدول ينوح كالثكلى، فسألته: لماذا تنوح يا أيّها الجدول العذب؟ فأجاب: لأنّني سائر كرهًا إلى المدينة حيث يحتقرني الإنسان ويستعيض عنّي بعصير الكرمة ويستخدمني لحمل أدرانه. كيف لا أنوح وعن قريب تصبح نقاوتي وزرًا وطهارتي قذرًا؟
ثمّ أصغيت فسمعت الطيور تغنّي نشيدًا محزنًا يحاكي الندب فسألتها: لماذا تندبين يا أيّتها الطيور الجميلة؟ فاقترب منّي عصفور ووقف على طرف الغصن وقال: سوف يأتي ابن آدم حاملاً آلة جهنّميّة تفتك بنا فتك المنجل بالزرع، فنحن نودّع بعضنا بعضًا لأنّنا لا ندري من منّا يتملّص من القدر المحتوم. كيف لا نندب والموت يتبعنا أينما سرنا؟
        طلعت الشمس من وراء الجبل وتوّجت الجبل رؤوس الأشجار بأكاليل ذهبيّة وأنا أسأل ذاتي: لماذا يهدم الإنسان ما تبنيه الطبيعة؟

       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق