سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 31 يناير 2017

في مَدينَة الأمواَت (22 - من كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران)

لوحة لجبران خليل جبران

في مَدينَة الأمواَت
       تملّصت بالأمس من غوغاء المدينة وخرجت أمشي في الحقول الساكنة حتّى بلغت أكمّة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكلّ ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.
       جلست أتأمّل عن بُعد بأعمال الإنسان فوجدت أكثرها عناء فحاولت في قلبي ألّا أفكّر بما صنعه ابن آدم وحوّلت عينيّ نحو الحقل كرسيِّ مجد الله فرأيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الأجداث الرخاميّة المحاطة بأشجار السرور.
       هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكّر في كيفيّة العراك المستمرّ والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهدوء المستقرّ في تلك. من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبّة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب تقلّب الطبيعة بطنه ظاهرًا وتبدع منه نباتًا ثمّ حيوانًا، وكلّ ذلك يتمّ في سكينة الليل.
       بينا أنا مستسلم لعوامل هذه التأمّلات استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء تتقدّمه الموسيقى وتملأ الجو ألحانًا محزنة. موكب جمع الفخامة والعظمة وآلف بين أشكال الناس. جنازة غنيّ قويّ. رفات ميت يتبعه الأحياء وهم يبكون ويولولون ويبثّون بالهواء الصراخ والعويل.
بلغوا الجبّانة فاجتمع الكهّان يصلّون ويبخّرون، وانفرد الموسيقيّون ينفخون الأبواق وبعد قليل انبرى الخطباء فأبّنوا الراحل بمنتقيات الكلام، ثمّ الشعراء فرثوه بمنتخبات المعاني، وكلّ ذلك كان يتمّ بتطويل مملّ. وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفّارون والمهندسون وحوله أكاليل الأزهار المنّمقة بأيدي المتفنّنين.
       رجع الموكب نحو المدينة وأنا أنظر من بعيد وأفكّر.
       ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت أخيلة الصخور والأشجار وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.
       في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلّان تابوتًا خشبيًّا ووراءهما امرأة ترتدي أطمارًا بالية وهي حاملة على منكبيها طفلاً رضيعًا وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى. جنازة فقير حقير، وراءها زوجة تذرف دموع الأسى وطفل يبكي لبكاء أمّه وكلب أمين يسير في مسيرة حزن وكآبة.
       وصل هؤلاء إلى المقبرة وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية ثمّ رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يتلفّت نحو محطّ رحال رفيقه حتّى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.
       فالتفتّ إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء. ثمّ نحو مدينة الأموات وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء. فأين موطن الفقير الضعيف يا ربّ؟

       قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبّدة الملتوّنة أطرافها بذهب من أشعّة الشمس الجميلة، وسمعتُ صوتًا من داخلي يقول: هناك.

هناك تعليق واحد: