سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 31 يناير 2017

رؤيا (18 - من كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران)

متحف جبران خليل جبران في بشرّي

رؤيا
       هناك في الحقل على ضفّة جدول بلوريّ رأيت قفصًا حبكت ضلوعه يد ماهرة. وفي إحدى زوايا القفص عصفور ميت وفي زاوية أخرى جرن جفّ ماؤه وجرن نفذت بذوره.
        فوقفت وقد امتلكتني السكينة وأصغيت صاغرًا كأنّ في الطائر الميت وصوت الجدول عظمة تستنطق الضمير وتستفسر القلب.
        وتأمّلت فعلمت أنّ ذلك العصفور الحقير قد صارع الموت عطشًا وهو بجانب مجاري المياه، وغالبه جوعًا وهو في وسط الحقول الّتي هي مهد الحياة كغنيّ أُقفلت عليه أبواب خزائنه فمات جوعًا بين الذهب.
        وبعد هنيهة رأيت القفص قد انقلب فجأة وصار هيكل إنسان شفّافًا، وتحوّل الطائر الميت إلى قلب بشرّي فيه جرح عميق يقطر دمًا قرمزيًّا وقد حاكت جوانب الجرح شفتي امرأة حزينة.
        ثمّ سمعتُ صوتًا خارجًا من الجرح مع قطرات الدماء قائلاً: أنا هو القلب البشريّ أسير المادّة وقتيل شرائع الإنسان الترابيّ. في وسط حقل الجمال، على ضفّة ينابيع الحياة، أُسرت في قفص الشرائع التي سنّها الإنسان للشواعر. على مهد محاسن المخلوقات بين أيدي المحبّة متُّ مهملاً، لأنّ ثمار تلك المحاسن ونتاج هذه المحبّة قد حُرّما عليّ.
كلّ ما يشوقني صار بعرف الإنسان عارًا، وجميع ما أشتهيه أصبح في قضائه مذلّة.
أنا القلب البشريّ قد حُبست في ظلمة سنن الجامعة فضعفت، وقيّدت بسلاسل الأوهام فاحتضرت، وأُهملت في زوايا غيّ المدنيّة فقضيت ولسان الإنسانية منعقد وعيونها ناشفة وهي تبتسم.

        سمعت هذه الكلمات ورأيتها خارجة مع قطرات الدم من ذلك القلب الجريح، وبعد ذلك لم أعد أرى شيئًا ولم أسمع صوتًا فرجعت إلى حقيقتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق