سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 31 يناير 2017

رُحماك يا نفس رحمَاك (17 - من كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران)

 
متحف جبران خليل جبران في بشرّي
رُحماك يا نفس رحمَاك
       حتّامَ تنوحين يا نفسي وأنت عالمة بضعفي؟ إلى متى تضجّين وليس لديّ سوى بشري أُصوّر به أحلامك؟
       انظري يا نفسي فقد أنفقت عمري مصغيًا لتعاليمك. تأمّلي يا معذّبتي فقد أتلفت جسمي متّبعًا خطواتك.
       كان قلبي مليكي فصار الآن عبدك، وكان صبري مؤنسي فغدا بك عذولي. كان الشباب نديمي فأصبح اليوم لائمي، وهذا كلّ ما أوتيته من الآلهة، فممّ تستزيدين وبِمَ تطمعين؟
       قد أنكرت ذاتي وتركت ملاذ حياتي وغادرت مجد عمري ولم يبقَ لي سواك، فاقضي عليّ بالعدل، فالعدل مجدك، أو استدعي الموت واعتقي من الأسر معنّاك.
       رحماك يا نفس! فقد حملتني من الحبّ ما لا أطيقه: أنت والحبّ قوّة متّحدة، وأنا المادّة ضعف متفرّق، وهل يطول عراك بين قويّ وضعيف؟
       رحماك يا نفس! فقد أريتني السعادة عن بعد شاسع: أنت والسعادة على جبل عالٍ، وأنا الشقاء في أعماق الوادي، وهل يتمّ لقاء بين علو ووطوءة؟
          رحماك يا نفس! فقد أبنت لي الجمال واخفيته: أنت والجمال في النور، وأنا والجهل في الظلمة، وهل يمتزج النور بالظلمة؟
       أنت يا نفس تفرحين بالآخرة قبل مجيء الآخرة، وهذا الجسد يشقى بالحياة وهو في الحياة.
       أنت تسيرين نحو الأبديّة مسرعة، وهذا يا نفس منتهَى التعاسة.
أنت ترتفعين نحو العلو بجاذب السماء، وهذا الجسد يسقط إلى تحت بجاذبيّة الأرض، فلا أنت تعزّينه ولا هو يهنّئك، وهذه هي البغضاء.
       أنت يا نفس غنيّة بحكمتك، وهذا الجسد فقير بسليقته، فلا أنت تتساهلين ولا هو يتبع، وهذا هو أقصى الشقاء.
       أنت تذهبين في سكينة الليل نحو الحبيب وتتمتّعين منه بضمّة وعناق، وهذا الجسد يبقى أبدًا قتيل الشوق والتفريق.

       رحماك يا نفس رحماك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق