عولمة
الأمراض
صحيفة
النهار – الاثنين 5 أيّار 2003
ها العولمة تحاول الانتشار بين البلدان
كالأمراض المميتة، وها القرية الكونيّة تخضع للحَجر الصحيّ، ويقبع فيها المرضى
منتظرين الموت أو الشفاء العجائبيّ.
أرادوا إزالة الحواجز بين الأمم، فاجتاحتِ
الأممَ موجاتٌ من الأمراض الخبيثة؛ وأرادوا هدم الحدود بين الحضارات وتذويبها في
حضارة كونيّة أحّاديّة الرؤية واللغة، فانطلقت الأوبئة المميتة من عالم الحيوان
إلى عالم الإنسان، وساهمت وسائل الاتّصال الحديثة، العاجزة عن التواصل، في تنقّلها
بين مختلف قارات الأرض.
من المستحيل اليوم أن يُحصر الوباء، أيّ
وباء، في منطقة معزولة، لأنّ السرعة التي افتخر الإنسان بالوصول إلى عصرها، هي
نفسها التي تنقل مرضًا فتّاكًا من مكان إلى آخر، من دون رادع أو ضابط، ولأنّ
السهولة التي ينتقل فيها الإنسان من مكان إلى آخر تتيح للميكروبات والفيروسات
إمكان التجوّل من بيت إلى بيت، ومن قارّة إلى قارّة، ومن الأرض إلى الكواكب
والنجوم.
تعرّضت الإنسانيّة في مختلف العصور لأنواع
من الأمراض والأوبئة، راح ضحيّتها ملايين البشر. وكان الإنسان يرغب خلالها في
الوصول إلى زمنٍ يقضي فيه العِلم على المرض، ويضع حدًّا لانتشاره. لكنّ النظام
العالميّ الجديد الذي نخضع لشروطه يفضّل أن يخترع الداء لا الدواء، وأن يصدّر
الوباء لا اللقاح، وأن ينشر الجيوش لا الأطبّاء، وأن تكون موازنات وزارات الدفاع
أكبر بكثير من تلك المخصّصة للاستشفاء والتربية.
إزالة الحدود هي التي جعلت الصغار يشاهدون
عبر وسائل الإعلام ما يراه الكبار،
وجعلت المراهقين عجزة سئموا "تكاليف الحياة" ولمّا
يصلوا إلى مرحلة الشباب،
وجعلت الإعلاميّين يفهمون في كلّ الأمور أكثر من الخبراء
المتخصّصين،
والكلاب والهررة تقيم في غرف لا يستطيع كثير من الأطفال
الحصول على بعض رفاهها وأناقتها ودفئها،
والرجال بنعومة النساء، والنساء بخشونة الرجال،
والتلاميذ زبائن مقتنعون بأنّهم على حقّ مهما فعلوا،
والمربّون من أصحاب العصمة،
والمجرمون في مراكز القرار،
والأبرياء في غياهب السجون،
وحاملو الشهادات المزوّرة من أرباب الثقافة...
في عصر العولمة وضياع الهويّات وسرعة الحركة، صار كلٌّ
منّا كلَّ شيء وكلَّ أحد إلّا نفسه.