(1414 كلمة)
دولة الرئيس، حضرة النوّاب المحترمين.
بالأمس القريب اجتمع المجلس النيابيّ لينتخب
رئيسًا للجمهوريّة قادرًا على قيادة مسيرة الوفاق والسلام، مسيرة استعادة السيادة
والكرامة الوطنيّة، واليوم يجتمع مجدّدًا والحزن يلفّه على شهيد الوحدة الوطنيّة وعلى
ربّان السفينة التي عادت تتقاذفها أمواج المؤامرات.
لقد سقط فخامة الرئيس رينيه معوّض شهيد واجبه
الوطنيّ وإيمانه بمقدّسات التزم بها في خطابه الرئاسيّ الأوّل أمامنا. لقد سقط وهو
يناضل من أجل الوفاء بعهده بأنّه سيؤدّي واجبه كاملًا نحو وطنه وشعبه، وأنّه لن تثنيه
صعوبات عن متابعة مسيرة الخلاص.
لقد سقط من "أجل أن ترتفع راية الأرز فوق
كلّ القمم، ويسلم حقّ المواطن وكرامة الانسان فتعود البسمة إلى كلّ الشفاه والاستقرار إلى لبنان".
لقد خافوا من إيمان شهيدنا العظيم بلبنان، ومن
عزمه على تحقيق "رهان عمره في إرساء المصالحة بين اللبنانيّين"، وفي
استعادة سيادة الوطن كاملة، فغدروه وقتلوه ظنًّا منهم أنّهم يقتلون معه أهدافه وأهداف
كلّ لبنانيّ مخلص شريف.
إلّا أن مجلسكم الكريم، وفي وقفة وطنيّة رائعة، هبّ يلبي نداء الوطن مجدّدًا رافضًا أن تذهب دماء شهيدنا العظيم هباء، وأن تسقط معه
تطلّعاته، وأن يُغتال معه مشروع وثيقة الوفاق الوطنيّ. لقد هبّ مجلسكم بشجاعته
المعهودة، يواجه أيادي الغدر ويردّ على القتلة الجبناء، معلنًا أنّه إذا مات رئيس
البلاد فلبنان لا يموت، وأنّ ارادة اللبنانيّين في الحياة لا يمكن أن تموت، وأنّ مسيرة
الإنقاذ التي ابتدأت لن تتعثّر ولن تنكفئ.
وانطلاقًا من هذا الإيمان الراسخ التأم مجلسكم
فورًا ليفوّت فرصة القضاء على لبنان الواحد، ولينقذ مسيرة الخلاص مقدّمًا بذلك إلى
الرئيس الراحل إكليل عرفان ووفاء وتعزية، منتخبًا من يتابع الرسالة الوطنيّة عنه،
ومن يحمل الراية التى هوت معه، فيكمل الجهاد من أجل إنقاذ الوطن.
أيّها السادة،
لقد شاءت الأقدار أن تلتقي إرادتكم على شخصي
لأتحمّل المسؤوليّة الرئاسيّة، فإليكم امتناني للثقة الغالية التي أوليتموني إيّاها.
وإلى الشعب اللبنانيّ العظيم عهدي بأن تعود راية
الأرز خفّاقة عالية فوق كلّ شبر من أرض لبنان، وأن يستعيد وطننا الحبيب سيادته
واستقلاله، وأن يَنْعم اللبنانيّ، كلّ لبنانيّ، بحقّه في الحياة الكريمة الآمنة. وإلى
الرئيس الشهيد وعدي بأن التزم مبادئَه، وأن أحقّق الأهداف التي أعلنها والتي من أجلها
سقط، فترتاح روحه القلقة على لبنان وقد استعاد كامل وحدته وسيادته.
أيّها السادة،
الظرف عصيب،
ولبنان اليوم مهدّد، أكثر من أيّ يوم مضى، بعظيم الأخطار، واللبنانيّون قلقون على
المصير، حائرون يتلمّسون الخلاص حينًا، وتخيب آمالهم أحيانًا... إلّا أنّه، وللمرّة
الأولى، منذ اندلاع شرارة الأحداث في لبنان تُتاح لهم فرصة سلام حقيقيّة متمثّلة
بوثيقة الوفاق الوطنيّ، التي أجمع العالم بأسره على دعمها وأقرّها مجلسكم الكريم... إنّها مشروع متكامل للإنقاذ ولوضع حدّ نهائيّ وجذريّ للآلام والدموع ولوقف النزيف
القاتل الذي يتفاقم يومًا بعد يوم. وخيار اللبنانيّين أصبح واضحًا، فإمّا الالتزام بهذه
الوثيقة والاستفادة من الضمانات والدعم العالميّ لها، وإمّا أن يجهضوها ويقضون على
بارقة الأمل الوحيدة المتوافرة لهم، وتبقى البلاد عرضة للمؤامرات التي تستهدف الوطن
ووحدته وشعبه.
فخيار اللبنانيّين بين وحدة لبنان وشعبه ومؤسّساته، وبين تقسيمه واقتسامه وشرذمته وزواله، وقد اخترنا باسمهم الوحدة.
وخيار اللبنانيّين بين بناء مجتمع العدالة
المتطوّر ديمقراطيًّا، وبين الاستمرار في الاقتتال العبثيّ وتسعير الأحقاد وإذكاء روح
التعصّب والتفرقة، وقد اخترنا باسمهم البناء ووقف التدمير والهدم.
وخيار اللبنانيّين بين نظام ديمقراطيّ مصدر سلطاته إرادة الشعب اللبنانيّ، وبين أنظمة الديكتاتوريّة حيث لا قيمة للإنسان وحريّاته
وحقوقه، وقد اخترنا باسمهم النظام الديمقراطيّ الحرّ.
وخيار اللبنانيّين بين دولة المؤسّسات الحديثة ذات
الصلاحيّات الواضحة والمسؤوليّات الناتجة عنها بحيث يطال القانون كلّ اللبنانيّين
مهما علا شأنهم، وبين الدولة السائبة التي تتضارب فيها الصلاحيّات وتضيع في طيّاتها
المسؤوليّات... فلا من يحاسب أو يعاقب ممّا يجعل المقدّسات الوطنيّة والأموال العامّة
وحقوق المواطنين عرضة لكلّ طامع وفاسد، وقد اخترنا باسمهم دولة المؤسّسات.
وخيار اللبنانيّين بين دولة تقوم على الأخلاق والكفاءة وبين دولة
تقوم على المحسوبيّة وانعدام الاخلاق، وقد اخترنا باسمهم دولة الأخلاق.
وخيار اللبنانيّين بين دولة تحقّق العدالة
الاجتماعيّة الشاملة على أساس الإنماء المتوازن للمناطق، وبين دولة الحرمان والإجحاف
والتميّيز بين المواطنين وقد اخترنا باسمهم دولة العدالة.
وخيار اللبنانيّين بين دويلات الطوائف المتنافرة
والضعيفة، وبين الدولة الواحدة القويّة الجامعة التي تعزّز الانتماء الوطنيّ المحض على
حساب الانتماء الطائفيّ دون أن تُمسّ حقوق أيّة طائفة أو وجودها أو حريتها وقد اخترنا
باسمهم الدولة الواحدة التي تضمّ العائلات الروحيّة المتنوّعة في إطار الوحدة الوطنيّة
الشاملة والصحيحة.
وخيار اللبنانيين بين حالة الفلتان السائدة، فلا
حقّ في حمى القانون ولا حياة في أمان ولا أمل في مستقبل، وبين أن تبسط الدولة
سلطتها تدريجيًّا على كامل أراضيها، وبواسطة قوّاتها الذاتيّة، فتحلّ جميع الميليشيات، وتجمع السلاح، وتعزّز قوّاتها الأمنيّة والعسكريّة لتعود السلطة الضامنة الوحيدة لحقوق
المواطنين، وقد اخترنا باسمهم دوام سيادة القانون.
وخيار اللبنانيّين بين أن يبقى قسم كبير وعزيز
منهم مهجَّرًا ضمن وطنه أو مهاجرًا خارجه، وبين أن تُحلّ قضية المهجريّن اللبنانيّين جذريًّا
فيعود كلّ منهم إلى المكان الذي هُجِّر او هاجر منه ليعيش فيه بأمان وكرامة وحريّة، وقد
اخترنا باسمهم عودة المهاجرين والمهجّرين.
وخيار اللبنانيّين بين أن يبقى جزء من أراضي وطنهم
تحت نير الاحتلال الإسرائيليّ، وبين أن نحرّره بتطبيق القرار رقم 425 الصادر عن مجلس
الأمن الدوليّ، وبإعادة بناء جيش وطنيّ قادر، وقد اخترنا باسمهم استعادة سيادتنا
وتحرير أرضنا وتوحيد شعبنا.
وخيار اللبنانيّين بين أن نبقى دولة عاجزة عن بسط
سلطتها على كامل أراضيها، وبين أن نسرع ببناء قوّاتنا الشرعيّة الذاتيّة لنستعيد
قدراتنا على بسط سلطة القانون ونستغني عن أيّ وجود عسكريّ غير لبنانيّ، وقد اخترنا
باسمهم بناء الدولة القادرة على بسط سلطتها على كامل أراضيها وألّا تبقى مرتفعة في
لبنان سوى البندقية الشرعيّة اللبنانيّة.
وخيار اللبنانيّين بين أن نتنكّر لتراثنا في
الانفتاح والتفاعل الحضاريّ ولدورنا الطليعيّ في محيطنا فنعيش منعزلين متقوقعين أسرى
الهواجس والأوهام، وبين أن نتفاعل مع عائلتنا العربيّة ملتزمين قضاياها المصيريّة
ومواثيقها، وقد اخترنا باسمهم تعزيز انتمائنا العربيّ، المتوافق مع تاريخنا
وتطلّعاتنا الوطنيّة، والمتلاقي مع العاطفة العربيّة الصادقة التي تجلّت في الجهود
المشكورة التي تبذلها اللجنة العربيّة الثلاثيّة العليا باسم العرب جميعًا، وفي
الضمانات التي قدّمتها لحسن تنفيذ وثيقة الوفاق الوطنيّ، خصوصًا في الشقّ المتعلّق
باستعادة السيادة الوطنيّة وإعادة إعمار لبنان.
وخيار اللبنانيّين بين أن نبقيَ صفحة سوء التفاهم
بين لبنان والشقيقة سوريا مفتوحة مع ما ينتج عنها من أضرار للبلدين عرّضت شعبنا
للكثير من المآسي، وبين أن نطوي هذه الصفحة نهائيًّا، ونفتح صفحة جديدة مشبعة بروح
التعاون الصادق الكفيل بخلق أجواء الثقة المتبادلة، وبناء علاقات أخويّة تحقّق مصلحة
البلدين والشعبين في إطار سيادة واستقلال كلّ منهما، وقد اخترنا باسم اللبنانيّين
التوجّه الأخير، خصوصًا وأنّ إعلان الشقيقة سوريا موافقتها على مشروع وثيقة الوفاق
الوطنيّ مع ما احتوته من تأكيد على سيادة واستقلال لبنان، وعلى كونه وطنًا نهائيًّا
لجميع أبنائه أسقط هواجس البعض ومخاوفهم.
أيّها السادة،
أيّها السادة،
إنّ الخيارات
التي ذكرتها تؤكّدها وثيقة الوفاق الوطنيّ التي أقرّها مجلسكم الكريم والتي ألتزم بها أمامكم، وهي ستكون برنامج عمل حكومة الوفاق الوطنيّ التي سيتمّ تشكيلها في أقرب فرصة
ممكنة. إنّ اعتماد هذه الخيارات المصيريّة يدفعنا حتمًا إلى خوض معركة إنقاذ لبنان
واللبنانيّين، وهم في وحدتهم وتصميمهم على الخلاص أكبر ضمانة لنجاح هذه المسيرة
الإنقاذيّة... من هذا المنطلق إنّني أمدّ يدي للتعاون مع كلّ اللبنانيّين، وبصورة خاصّة
مع القيادات منهم دون استثناء، ومع الجيل الطالع الذي حرمته الأحداث من نعمة الحياة
الكريمة، والذي يستطيع أن يستعيد الأمل بلبنانَ عزيزٍ سيّد حرّ مستقلّ ومستقرّ، من خلال
دعم مسيرتنا الهادفة إلى إعطاء هذا الجيل حقّه في المشاركة الفعّالة ببناء وتطوير
وطنه نحو الأفضل. ومن هنا دعوتنا إلى التعقّل بدل المغامرات المحفوفة بالمخاطر، ودعوتنا إلى الواقعيّة بدل الشعارات التي ستحوّل الأحلام إلى كوابيس والآمال إلى
دموع. ودعوتنا إلى الحياة بكرامة بدل الانتحار الجماعيّ والمجانيّ.
أيّها السادة،
يوم توافقنا في
الطائف وأجمع العالم على دعمنا وتأييدنا، انطلقت مسيرة السلام في لبنان ومسيرة
استعادة سيادتنا وكرامتنا الوطنيّة... ومهما حاول أعداء لبنان عرقلة هذه المسيرة
فلن ينجحوا لأنّ إرادة الحياة لدى شعبنا العظيم هي أقوى من قوى الموت والشرّ، ولأنّ اللبنانيّين المعذَّبين قد شبعوا اقتتالًا وتشريدًا وتهجيرًا وتضحيات لم تحقّق حتّى اليوم أيّا من الأهداف الوطنيّة، وأنهم بعد معاناتهم الطويلة باتوا مقتنعين بأنّ خلاصهم هو
في يدهم وفي وحدتهم، وأنّ الوفاق الذي وفّرته وثيقة الوفاق الوطنيّ هو المدخل الجديّ لاستعادة العافية والمناعة الوطنيّة وبناء الدولة القادرة السيّدة، ولاستعادة
المقاييس الوطنيّة والقيم الإنسانيّة.
إنّني أدعو جميع إخواني اللبنانيّين إلى الانضمام
فورًا إلى مسيرتنا الوطنيّة، وإلى وقف لغة العنف والاقتتال، فنعيد إلى جيشنا اللبنانيّ دوره الأساسيّ في حماية الوطن والنظام، ليبقى الدرع الواقية التي تردّ عن لبنان
الأخطار وتؤمّن للمواطن حقّه المقدّس في الحياة الكريمة، ونتفادى بذلك محاولات إسقاطه
كمؤسّسة وطنيّة تقوم على مبادئ الشرف والتضحية والوفاء للشرعيّة في سبيل لبنان
الواحد الموحَّد.
إنّ يدي ممدودة بكلّ محبّة وإخلاص للجميع من أجل
التعاون الصادق لإنقاذ الوطن، وأملي أن تمتدّ الأيادي المتردّدة لملاقاتها خدمة
للبنان، مؤكّدًا على أنّ مسيرتنا لن تتوقّف مهما عظمت الصعاب، وهي تستدعي تضافر جهود
الجميع، كما وهي قادرة على سحق كلّ من سيقف في وجهها، لأن مصلحة لبنان وشعبه هي أكبر
وأهمّ من كلّ الاعتبارات والأشخاص والمصالح.
إنّنا في صدد بناء دولتنا القويّة والعادلة
واستعادة سيادتنا غير المنقوصة، فلا مجال للمساومة أو التردّد ... وإنّ قبولي تولّي
منصب رئاسة الجمهوريّة في هذه الظروف الدقيقة لهو تأكيد على اقتناعي الكلّيّ بصوابيّة
خياراتنا وعلى تصميم الرئاسة على بذل كلّ شيء من أجل لبنان ...
والله وليّ التوفيق.
عاش لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق