سياسة قسم اللغة العربيّة

الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

حفيدُك هو الرجل الصغير لا صغير الرجل (نصّ للفهم والتحليل) للصفوف الثانويّة


الدكتور نسيم خوري محتضنًا حفيده


السؤال الأكبر الذي يشغلنا جميعًا هو: أيّ نوعٍ من الأدمغة تلك التي يحملها أولادنا الصغار وأحفادنا وكم صارت مختلفةً عنّا كثيرًا وتثير إعجابنا؟ 
أسارع إلى الجواب أنّ الأطفال الذين يولدون وينمون ثمّ يستغرقون في المجتمعات الرقميّة المتخمة بالألعاب الإلكترونيّة والأفلام والبرامج والمقابلات والمحادثات القصيرة جدًّا يتحوّلون بشكلٍ لا واعٍ إلى ما يشابه الإنسان الرقميّ الذي يقدّس اللحظة. تلك اللحظة تخلق منهم أصحاب قدرات انتباهيّة واستيعابيّة هائلة تزوّدهم بطاقة قويّة لم نشهدها من قبل، وتسمح لهم، بالطبع، باستيعاب تعقيدات المواقف المتعدّدة.
قد تصعب الأسئلة والمحادثات الطويلة معهم بكونهم صاروا يعتبرون أنفسهم الرجال الصغار  Les Petits Hommes لا صغار الرجال Les Petits des Hommes يعيشون في مجتمع له صفات جديدة متعدّدة ما عادت تنفع فيه النصائح والتوجيهات والأوامر والتقاليد، بعدما عجزت الأفكار والفلسفات والأديان في محاولات مصالحة الإنسان مع التكنولوجيا وصدّه عنها أو ضبطه على الأقلّ. إنّه المجتمع العالميّ حيث انهيار الأرقام وسحقها وهندسة المعرفة والمنازل الذكيّة Smart Home والمدن الآليّةComputerized Cities  وصناعة الأخلاق والقيم  Ethics Industry. 
عالم عجيب من الأرقام والرموز بأنواعها مع الصوت والنصّ والصورة، مع المكتوب والمنطوق، مع المحسوس وغير المحسوس، مع العقل والأسرار البيولوجيّة الدفينة النفسيّة منها، الوهميّة والممكنة. وتنتشر أشياء هذه المعلومات من أدوات المطابخ إلى المفاعلات الذريّة. إنّها صناعات تجهد لإقامة عوالم مصطنعة مركّبة وغير واقعيّة تتقدّم التكنولوجيا فيها كما الماء والغذاء والهواء.
الإنسان الرقميّ/ إبني/ حفيدي/ قريبي وجاري (لا قرابة ولا جيران بادية في المجتمعات الرقميّة) يحمل هويّة وهميّة "سائلة" "مائعة" "متحرّكة"، لكنّها قد لا تأخذ حضورها إلّا خلف الشاشة حيث يعمل الناس معًا وتسقط الأقنعة الدهريّة البشريّة عمليًّا عن بُعد وينتابهم شعورٌ بالإحباط والعجز إن لم ينخرطوا في نسيج القشرة الدماغيّة العليا ووظائفها العالميّة.
تبدو مفاهيم السلطة في الانتساب إلى هذا اللحاء البشري مرعبةً، خصوصًا أنه انتساب يعني في ما يعنيه أنّ واحدنا موصول بالبشرية كلها صامتاً أو هامساً يسمع صداه أو صدى الآخر.
يبدو هذا الإنسان "الرقميّ" أو "الإنترنتيّ" أميركيّ الملامح، نراه في تجمّعات واضحة من الشباب والشابات في عواصم العرب والعالم. تجمّعات غريبة في لباسها وأذواقها وسلوكها وتسريحات شعورها ولغاتها تعيش وتستقي فلسفات الموضة والصرعات من الإنستغرام.
إنّه جيل الوجبات السريعة  Fast Food، المضغوط مثل قناني الـ "كوكاكولا" وجيل الشاشات العملاقة والرقص في الساحات تلويحًا بالأيدي إلى فوق والمغامرات، الجينز وخصوصاً الممزّق لباس العصر أو "الشورت" والأذرع الموشومة بما يقرّبهم من رعاة البقر الأميركيّ في إعلانات السجائر التي تحتلّ واجهات العالم، معتبرين أنّ المعركة تسكع واختلاط على الأرصفة، ورطنة بألسنة إنكليزية لا مكان فيها للغة الأمّ على الإطلاق.
جيل مقبل بلهفة لا تصدق على الجامعات الأميركيّة. وتُعتبر أميركا بالنسبة إلى هؤلاء الشباب الفردوس الأرضيّ، والسرعة في قيادة السيارات مقياس المعاصرة والقوّة، لا فرق بين ذكرٍ وأنثى. لو قُدّر لسكّان المعمورة اختيار الحياة التي يريدون، لانتخبت الغالبيّة العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في أحياء سان فرنسيسكو، ولاختارت أقليّة منهم مطّلعة على واقع الحال مستويات الرعاية الاجتماعيّة التي كانت سائدة في ألمانيا الغربيّة في السنوات التي سبقت انهيار جدار برلين، ولكانت التشكيلة المترفة التي تجمع بين "فيلا" في البحر الكاريـبي والرفاهية السويديّة حلم الأحلام بالنسبة إليها.
الإنسان الإنترنتيّ/حفيدي هو الإنسان الذي يسأل نفسه ماذا سيحصل بعد بدلاً من السؤال: ماذا سنفعل؟ لا يختفي الإنسان بالطبع، بل يبقى كائنًا حيًّا منسجمًا مع الطبيعة. ولا تعبّر هذه النهايات سوى عن نهايات الحروب والصراعات الدمويّة، ويتوصّل الإنسان، بفضل قدراته الرقميّة، إلى مجتمع تغدو فيه حياته شبيهة بحياة المستلقي في الشمس طوال النهار سعيدًا ما دام قد حصل على غذائه، وراضيًا تمام الرضى بما هو عليه. لا قيمة كبرى لقراءات الكتب المحكومة بالعادة في بعض العواصم الأوروبيّة، إذ ليس مستطاعًا بعد كتابة شيء جديد حول وضعيّة الإنسان والفلسفة لأنّها ترداد قديم للجهالة.
قد يكون مقبولًا لدى أحفادنا، أن يقيم البشر أبنيتهم وأشغالهم كما تبني الطيور أعشاشها إحتفاءً بالعودة إلى الغريزة تمامًا كما تخيط العناكب أعشاشها، وأن يقيموا حفلاتهم على طريقة الضفادع والزيزان. يلعبون كصغار الكائنات، وقد يمتنعون عن الحب ككيانات راشدة.
بصراحة لم أعد أعرف أولادي ولم أتعرّف إلى حفيدي ولا مستقبل وطني.
من يرشدني مستقبلًا إلى معنى الوطن خارج موقعي فوق لوحة المفاتيح والزجاجة السحريّة؟
الدكتور نسيم خوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق