(942 كلمة)
حضرات النواب المحترمين.
بين مركز قيادة الجيش حيث الصمت رفيق الواجب،
ومنبر هذه الندوة حيث الكلام هو السيّد، مسافة لعلّها أصعب ما كتب لي أن اجتازه
منذ سلكت طريق الجنديّة. غير أنّ ثقة الشعب الغالية التي شاءت، يوم عبّرتم
عنها، أن توليني مهام رئاسة الجمهوريّة، يمكنها دائمًا أن تسهّل لي ما أردتم بهذه
الرئاسة وأردت من خدمة لبنان وشعبه.
إنّ أوّل ما يتّجه اليه تفكيرنا، ونحن في هذا الموقف الذي يمتلئ
فيه القلب بروعة المسؤوليّة أمام الله والوطن، هم أولئك اللبنانيّون الذين سقطوا
صرعى في الأيّام الدامية من حياة لبنان. فأمام أرواحهم نقف بخشوع لنعلن أنّ ما
قدمه لبنان في أزمته الأخيرة من ضحايا، وما قاساه من مشقّات ومتاعب، وما تكبّده من
خسائر، لا يجوز أن يذهب هباء، بل يجب أن يكون للبنان من ذلك كلّه أعظم الجنى. وفي
عنق كلّ لبنانيّ أن تنبت من البؤس والدماء والآلام أغراسُ العز والهناء والازدهار.
إنّ إقرار الأمن وحكم الدولة في جميع المناطق اللبنانية، ونزع
السلاح من أيدي اللبنانيّين كافّة دون تمييز وبلا هوادة، وإعادة الحياة والنشاط
إلى الاقتصاد اللبنانيّ، وبناء ما تخرّب من مرافق البلاد ومعالمها، وإزالة التوتر
في العلاقات بين لبنان وبعض شقيقاته العربيّات، ولا سيّما تلك التي تجاوره، وفوق
هذا كلّه تحقيق انسحاب القوات الاجنبيّة عن أرض الوطن بأسرع وقت، إنّما هي القضايا
الملحّة التي يتطلّب حلّها تصميم المسؤولين الكامل، وحزمهم الأوفى، وعنايتهم
الدائبة.
على أنّ هنالك ناحية أخرى من نواحي الأزمة هي ما تخلّف عن حوادثها
وأيّامها من تباعد وتنافر بين أعضاء الأسرة اللبنانيّة. وما أظن اللبنانيّين
جميعًا إلّا متألّمين لهذا الواقع المؤسف، وتوّاقين الى تصفية النفوس، وتنقية
الصدور ممّا علق بها. إنّ منطلقنا في ما نصبو إليه من تصفية آثار الأزمة وحلّ المعضلات
الناشئة عنها، وما نصبو إليه من بناء وطن حرّ متقدّم، ومستقبل مستقرّ مجيد، إنّما
هو التمسّك بالوحدة الوطنيّة.
إلى هذه الوحدة، إلى إحيائها والاعتصام بها، إلى العيش المستمرّ في
ظلّها، أدعو اللبنانيّين جميعًا.
فليس من مطمع ولا من مطلب، شخصيًّا كان أم حزبيًّا، يجوز أن نعرض
من أجله هذه الوحدة. وليس من حقّ لفرد أو لجماعة يوازي جزءًا يسيرًا من هذه
الوحدة. بل ليس من واجب ألزم على اللبنانيّين من الحرص عليها، والسعي إلى دعمها،
ولا من جريمة في حقّ الوطن أشنع وأخطر من العمل على هدمها أو التفريط بها.
حضرات النوّاب المحترمين.
في الساعة التي أقسم فيها يمين المحافظة على الدستور اللبنانيّ،
أعاهدكم وأطالبكم بعهدكم على الوفاء للدستور غير المكتوب: ميثاقنا الوطنيّ. فهو
الذي جمعنا ويجمعنا على الإيمان بلبنان وطنًا عزيزًا مستقلًّا، سيّدًا حرًّا،
متعاونًا بإخلاص وصدق مع شقيقاته الدول العربيّة إلى أقصى حدود التعاون لما فيه
خيره وخيرها جميعًا، مقيمًا علاقاته مع العالم أجمع على أساس الصداقة والكرامة
والتعامل المتكافئ الحرّ.
وإذا كان ميثاق جامعة الدول العربيّة التي نغتبط جميعًا لاستئناف
نشاطها، وميثاق هيئة الأمم المتّحدة، هما الدعامتان القويّتان لاستقلال لبنان،
فإنّ الدعامة الكبرى تبقى في ميثاقنا الوطنيّ: في وحدة صفوفنا، واجتماع قلوبنا، في
اعتمادنا على أنفسنا واتّكالنا على سواعدنا، في ولائنا الكامل غير المشوب ولا
المجزّأ لوطننا لبنان.
حضرات النوّاب المحترمين.
الضرورة
الأساسيّة الملحّة لبناء الدولة بناء سليمًا لم تتجلّ يومًا كما تجلّت في هذه
الفترة الدامية الأخيرة. ولم يبقَ مناص من إقامة الدولة على أسس وقواعد ومقاييس
مستمدّة من تصميم النخبة، ومصلحة الشعب وطموح الوطن.
ولكي يثق المواطن بالدولة، يجب أن يسري فيها روح الجدّ ويسيّره:
الجدّ في المسؤولية عن الواجب وفي الحساب، والجدّ في جعل الدولة للمواطن وللكل على
السواء، والجدّ في النظرة الى الغد والتصميم له.
ولا بدّ من أن يطمئن المواطن إلى تجرّد الحاكم، وعدل القاضي،
وأمانة الموظّف.
ولا بدّ من أن يكون للحكم فيه كلُّ هيبته، وللقانون كلُّ سلطته،
ولحقّ الفرد والجماعة كلُّ حرمته.
وعلى الدولة أن تتجاوز مهمة تأمين العدل والمساواة والنظام إلى
تعزيز الفضيلة، ورعاية التقدّم، والعمل على ازدهار العِلم، وتوفير أسباب النمو
الاقتصاديّ، وكفالة الرزق للفرد ومستوى العيش الكريم.
وإنّي، وأنا أَعِدُ مواطنيّ أمام مجلسكم بإعطاء الجهد كلّه في سبيل
بناء الدولة، أطالب كلّ مواطن ان يقطع على نفسه العهد بأن يفي بمسؤوليّته ويقوم
بكامل واجبه.
فالنهوض بالدولة، النهوض الذي نهدف إليه
اليوم، يحتاج إلى معاونة المواطنين جميعًا، وإلى حسّ الفرد بالانتماء إلى المجموع،
وإلى تفهّم الحدود بين حقّ الذات وحق الآخرين، والتمييز بين الحرية والفوضى، والى
التحلّي بروح النظام والخضوع الاختياري للقانون.
إنّ لبنان، الذي كان دائمًا حاملًا مشعل التقدّم في هذه البقعة من
المشرق، وصاحب المبادرة في كلّ نهضة عربيّة، لن يطمئن، اليوم، الى الدعة التي
تسلبه القدرة على الاستمرار في رسالته التقدمية المشعة، بل سيعمل بروح جديد على أن
يظلّ موطن التوثّب والإقدام، ويحتفظ بدور الطليعة الذي هو دوره.
وإنّي، وأنا أتّطلع إلى وثبة لبنانيّة سبّاقة يدفعها هذا الروح
الجديد، أتوجّه، بنوع خاص، الى عنصر الشباب الذي أتحسّس أشواقه إلى التقدّم
والمجد، وأعرف استعداده للعطاء والبذل بسخاء.
حضرات النوّاب المحترمين.
من هذا المنبر الذي تصدر عنه كلمة الشعب، اسمحوا لي ان أبعث
مقرونةً بالشكر لكم، تحيّة العرفان والولاء إلى الشعب الذي أوليتموني الرئاسة
باسمه، وتحيّة المحبّة والوفاء إلى المغتربين الذين أقاموا في أرجاء الدنيا مجد
لبنان العالي، والذين نتتبع، نحن المقيمين، نشاطهم وانتشارهم بعطف وعناية واعجاب.
ومن هذا المنبر، اسمحوا لي ان أعبّر عن طموح هذا الوطن، المنطوي
على كنوز وفيرة من كوامن القوى الخلّاقة، وإمكانات الابداع، إلى غد لا يكون فيه
لبنان شغل العالم بسبب أزمة سياسيّة تهدّد سلم منطقته أو سلم العالم، بل إلى غد
مجيد يكون فيه لبنان محط أنظار الدنيا، بفعل دور حضاريّ ألمعيّ شعاعُه العلم
العظيم، ونورُه الروح الكبير.
ولا بدّ لي، أخيرًا، من كلمة أوجّهها إلى جيشنا الحبيب. لقد رافقته
ينشأ، ويترعرع، ويزهو، وعملت في سبيله ما استطعت. فمن حقّه عليّ أن أخصّه، الآن،
في هذه اللحظة الخطيرة، بعاطفة ملؤها الحنو. لقد رأيته متحليًّا بوطنيّته وتفهّمه
للواجب. وكان له الفضل الاكبر في سلامة الكيان، والمحافظة على معاني الدولة،
واستمرار الحياة على أساس الديمقراطية والحرية والمحبة. فله منّي الثناء والشكر.
وليعلم أنّه أبدًا موضع ثقتي ليقيني أنّه خليق بمجابهة كلّ المواقف بروح الاتحاد
والانضباط.
أسأل الله تعالى أن يلهمنا السداد، وينير عقولنا بالحقّ ويفتح
قلوبنا على التسامح والمحبة، ويهدينا لما فيه مرضاته وراحة الضمير وخير لبنان.
عاش لبنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق