الأخوان رحباني في مطلع الشباب |
فيروزُ والأخوانِ رحباني صوتٌ من جبلٍ،
وألحانٌ من أنهارِ لبنانَ، وكلماتٌ رقيقةٌ كزهرِ اللّوزِ. في صوتِ فيروزَ ارتقاءُ
التُّرابِ إلى السّحابِ، وفي شعرِ الأخوَينِ ضوعُ اللّيمونِ، وخِصْبُ الطّواحينِ
الفوّارةِ. كلُّ قصيدةٍ عصفورٌ على قرميدٍ يَطيرُ بجناحينِ من نورٍ.. ويَظَلُّ في
طيرانِهِ لِيَجِدَ الدّفْءَ في حضنِ ذاكَ الصَّوتِ المُصلّي، فيطمئنَّ. كُلُّ
بساتينِ إنطلياسَ تحوَّلَتْ إلى باطونٍ، وبقيَ بستانُ الرَّحابنةِ وفيروزَ فردوسًا
لأحلامِنا وهيكلًا لتُراثِنا.
معظمُ
أنطلياسَ ونابيه تَفَتَّتَ وزالَ.. وبقيَتْ صخرةُ الخَلْقِ محطّةً لزَهوِنا ومدًى
لتأمّلاتِنا. في إنطلياسَ أَبٌ حارسٌ أمينٌ، مارُ الياسُ الحيُّ، وفيها فيروزُ
العاليةُ، والرَّحابنةُ أزهارُ اللهِ والفَنِّ... يُصلّي لُبنانُ كُلَّ يومٍ
وينحني لإلهِ فيروزَ:
"يا ساكن العالي طِلّ من العالي
عينك علينا وعلى أراضينا
رجّع
إخوتنا وأهالينا"
ويُردّدُ
عُشّاقُ الحقِّ كلماتِ الأخوَينِ رحباني وهم توّاقونَ إلى البراءةِ والسّلامِ:
"القمر
بيضوّي عَ النّاس والنّاس بيتقاتلو
عَ
مزارع الأرض النّاس عَ حجار بيتقاتلو
نحنا
ما عنّا حجر لا مزارع ولا شجر
إنتَ
وأنا يا حبيبي بيكَفينا ضَوّ القمَر"
ما يقولُ الجمالُ لصوتٍ هو شوقُ القلبِ إلى
اللهِ، ولفنٍّ هو اكتشافٌ دائمٌ لوجهِ اللهِ في الإنسانِ والأرضِ؟. هذهِ مواسمُ
طيّبةٌ من مواسِمِنا، وقصَّةٌ تجذبُنا، وقيامةٌ أُخرى من قيامةِ الذّوقِ فينا. لا
تشبِهُ قيامَتُنا، تلكَ، الصّدى أوِ الصّمتَ أوِ الانتظارَ: إنَّها اقترابٌ دائمٌ
من جنّةِ النَّهارِ، وهيَ حضورٌ في الحبِّ وعبورٌ، أيضًا، إلى الحبِّ الأعمقِ.
بدأَتِ القصّةُ بِبُزقِ حنّا عاصي الرّحباني ثُمَّ
بشراءِ كمنجةٍ بسبعِ ليراتٍ. وبينَ بيتِ الرّحباني وبيتِ فريد أبو فاضل رميةُ حجرٍ.
ففي مدرستهِ انتفَضَ طموحُهم، وفي مجلّتِهِ "الرّياضُ" تفتّحَتْ حبّاتُ
قمحِهم فصارُوا يُنْشِدونَ الأشعارَ كالطّيرِ في الوادي. وكبرَتِ القصّةُ
فرحَّبَتْ قريةُ الشّمسِ، قريةُ قبلانَ مكرزلِ، بالأبِ يوسفَ الأشقرِ الَّذي
اكتشَفَ مواهبَ الأخوَينِ بعدَ أن اكتشفَهما معلّمُهما، ابنُ نابيه. علّمَهُما
الموسيقيُّ الكبيرُ كيفَ يَصِلانِ إلى القلوبِ وكيفَ الِانطِلاقُ مِنَ الجُذُرِ،
فزرَعا، مِثْلَهُ، الصّلاة في كُلِّ قريةٍ وعلى كُلِّ قريةٍ من تلالِ لُبنانَ. ومن
الموسيقى الشّرقيّةِ إلى الموسيقى الغربيَّةِ، واشتعلَتِ الأيّامُ عطاءً غَيَّرَ
واقِعَ الموسيقى والأغنيةِ في الشّرقِ.
ولا غلوَّ في قَوْلِنا إنّ الأخوينِ رحباني وصديقَهما
زكي ناصيف نَفَخُوا في رمادِنا وخَلَقُوا بألحانِهم، وبصوتِ ملاكِ الجبلِ، الرّوحَ
اللّبنانيّةَ الخالدةَ. حاوَلُوا أن يكونُوا شُموليّينَ في رُؤاهُمُ الفنيّةِ فأسعَفَهُمْ
صفاءُ الفطرةِ وغنى الثّقافةِ الموسيقيّةِ. وهل يمكنُ أن نَذْكُرَ الكثيرَ منَ
المَجدِ، مجدِهم، دونَ أن نذكُرَ سعيدَ عقلَ وأثرَهُ في كثيرينَ على دروبِ
الشّعرِ؟ فيا عيدَ اللّيمونِ، في أنطلياسَ! إنّ ظلَّ شجرةٍ واحدةٍ من أشجارِ
الفنِّ يُسْعِدُنا أكثرَ بكثيرٍ من هذا الباطونِ الَّذي يطارِدُ السَّحابَ! ويا
عيدَ البراءةِ والإيمانِ هل يتبدّلُ الزّمانُ؟
إنطلياسُ نسمةُ حركةٍ وبركةٍ، حركتُها للثّقافةِ
وبركتُها للروحِ. من مسرحيّاتِ فريد أبو فاضل إلى "حرشاية" عاصي الرّحباني
ومواهبِ أهلِ البيتِ إلى شعرِ مكرزلٍ، إلى "الحركةِ الثّقافيّةِ"
ورُهبانِها، حياةُ فنٍّ وغنًى ترفعُ الجِباهَ!. من رحلاتِ الأبِ معوّضِ الجماليّةِ
إلى شعرِ عبداللهِ الأخطلِ، ومن مهرجانِ اللّيمونِ إِلى مهرجانِ الفكرِ تبقى
إنطلياسُ بسمةً للشّمسِ.
د. ربيعة أبي فاضل (في رحاب الوطن)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق