سياسة قسم اللغة العربيّة

الأربعاء، 25 فبراير 2015

العالميّةُ - بقلم الأب يوحنّا قمير

الأب الدكتور يوحنّا قمير

     1- العالميّةُ إِحدى سِماتِ هذا العصرِ، بلْ أَخطرُ تلكَ السِماتِ، أَفضلُ ما يقرّبُ الإنسانُ منَ الإِنسانِ، يشدُّهُ إِليْهِ في مصيرٍ مشترَكٍ: نَنجو معًا أَوْ نهلكُ معًا.
     العالميّة الثقافيّة أجلّ العالميّات شأنا، وأَقدر ما يسمو بالإنسان، يمكّنه من معرفة أخيه في أرقى ما وصل إِليه علما وفكرا، أدبا وفنّا.
     العلومُ الطبيعيّةُ منْ فيزياءٍ، وَكيمياءٍ، وَفلكيّاتٍ، وَرياضيّاتٍ... صارَتْ علومًا عالميّةً.
     وَيبقى الأَهمُّ، يبقى أَنْ تصيرَ علومُ الإِنسانِ نفسُها، آدابَهُ وَفلسفاتِهِ وَفنونَهُ... مُلكًا مشتركًا مشاعًا، جنى ومنهلًا، تلاقيًا على تراثٍ عامٍّ نتبيّنُ فيهِ الجامعَ، وَنتبادلُ النّافعَ، وَنتضافرُ على بناءِ كُرتِنا الأَرضيّةِ البناءَ الشامخَ المأمولَ.

     2- وَنلقى هذا الوجهَ الثقافيَّ الإِنسانيَّ في كُبرى ثقافاتِ العالمِ: في الهندوسيّةِ وَامتدادِها البوذيِّ، وَالعربيّةِ وَامتدادِها الإِسلاميِّ، وَالأُوروبيّةِ وَامتدادِها المسيحيِّ.
     الثقافةُ العربيّةُ حصيلةُ ما آمنَ بِهِ العربُ منْ دينٍ، وَنقلوا عنِ اليونانِ قديمًا، وَعنْ أُوروبّا حديثًا، وَحصيلةُ ما أَبدعوا في العلومِ وَالفلسفةِ وَالآدابِ وَالفنونِ.
     وَالثقافةُ الأٌوروبيّةُ حصيلةُ ما أبدعَهُ اليونانُ وَالرومانُ، وَما آمنَتْ بِهِ أُوروبّا منْ دينٍ مسيحيٍّ آسيويٍّ، وَأَخذتْهُ عنِ العربِ قديمًا وَأَبدعتْهُ في شتّى المجالاتِ.
    آسيا، مهدُ الثقافتَيْنِ الهندوسيّةِ وَالعربيّةِ، هيَ الشرقُ، كلُّ الشرقِ. وَأُوروبّا الثقافيّةُ تختصرُ الغربَ، وَكلتاهُما تختصرانِ الثقافةَ العالميّةَ، أَوْ تكادانِ.
    وَالمطلوبُ منْ أَهلِ هذهِ الثَقافاتِ التخلّي عنِ التعالي، وَعنِ الانزواءِ، وَعنِ العداءِ، وَالتلاقي على ثقافةٍ جامعةٍ تتّسعُ لِأَسمى ما في ثقافاتِهمْ.

     3- وَنرى أَنَّ لبنانَ، بِحكمِ موقعِهِ الجغرافيِّ منْ آسيّا وأوروبّا، منَ الشرقِ وَالغربِ وَبِحكمِ اطّلاعِهِ على الثقافةِ العربيّةِ، وَبعضِ الثقافةِ الأُوروبيّةِ، هوَ البلدُ الواحدُ المعدُّ لِلقيامِ بِهذا الدورِ الفريدِ. 
    وَندّعي في لبنانَ، على تبايُنِ منازعِنا، أَنَّنا نقومُ بِهذا الدورِ، أَنَّنا جسرٌ ثقافيٌّ بينَ الشرقِ وَالغربِ. إِنَّنا نردّدُ وَنزهو، وَنحنُ نجهلُ ما نقولُ، أَوْ نكذبُ على أَنفسِنا، وَعلى العالمِ.
     إِنَّ ما نعرفُهُ منَ الثقافةِ الأُوروبيّةِ محدودٌ وَمقتصرٌ على ما يعرفُهُ بعضُنا منَ الثقافةِ الفرنسيّةِ، وَبعضٌ آخرُ منَ الثقافةِ الانكليزيّةِ، فَمعرفتُنا هذهِ الثقافةَ محدودةٌ وَتعليمُنا إِيّاها لِلشرقِ معدومٌ.
     وَغائبَةٌ، غيابًا مُنكرًا شائنًا، معرفتُنا ما في الثقافةِ الهندوسيّةِ، بلْ إِذا ما أرادَ أحدُنا أَنْ يُلمَّ بِشيءٍ منٍها لجأَ إِلى الغربِ لِيعرفَ، فَالغربُ صلتُنا بِشرقِنا، لا نحنُ صلتُهُ بِهِ!

     4- عليْنا إِذًا أَنْ نصيرَ حقًّا جسرًا ثقافيًّا بينَ الشرقِ وَالغربِ- لا محطّةَ سفرٍ- عليْنا أَنْ نعرفَ ما يعرفانِ، فَتلتقي لديْنا الثقافاتُ، تلتقي وَتتوحّدُ، وَتتحقّقُ لَنا وَلِلعالمِ، ثقافةٌ عالميّةُ.
    
     وَيتيسّرُ لَنا ذلك إِذا تمَّ ما يلي:

     أ- الحرصُ كلُّ الحرصِ على ثقافتِنا العربيّةِ مستوى وَتطوّرًا وَشمولًا. وَأَعني بِالشُمولِ أَنْ يَضطّلِعَ بِها كلُّ اللبنانيّينَ.
     ب- الاتّساعُ بِبرامجِنا - الثانويّةِ وَالجامعيّةِ - لَأَخطرُ ما في ثقافةِ أُوروبّا، كلُّ أوروبّا السائرةُ إِلى الوحدةِ، أَيًّا تَكُنِ اللغةُ التي نتعلّمُ بِها، فَهناكَ ترجماتٌ عربيّةٌ، وَالترجماتُ الفرنسيّةُ وَالانكليزيّةُ ميسورةٌ وافيةٌ.
     ج- القيامُ بِدراساتٍ، وَتعريبُ مختاراتٍ وَمؤلّفاتٍ، يُمكّنانَنا منْ معرفةِ أَهمِّ ما في الثقافةِ الهندوسيّةِ، وَيُمكِّنان المدارسَ وَالجامعاتِ منْ تدريسِهِ.
     د- قيامُ جامعةٍ لبنانيّةٍ، ذاتِ مستوى عالميٍّ، أَساتذةً وطلّابًا، تعلِّمُ ثقافةً عالميّةً، وَيرتادُها طلّابُ لبنانَ وَالعالمُ العربيُّ، بلْ يرتادُها طلّابُ العالمِ، أَوْ يقيمُ العالمُ جامعاتٍ مماثلةٍ لِطلّابِهِ.

     5- أَدعو لبنانَ إِلى أَنْ يحلمَ الحلمَ الكبيرَ، وَالممكنَ التَحقيقِ، وَالواقيَ منَ الزَوالِ، إِلى أَنْ يصبحَ ثقافيًّا حيثُ هوَ جغرافيًّا - أي ملتقى الشرقِ وَالغربِ- أَنْ تتّسعَ ثقافتُهُ ما عُدَّ تحقيقُهُ مستحيلًا، يلتقي الشرقُ وَالغربُ، يلتقيانِ في لبنانَ، ثمَّ في كلِّ مكانٍ.

     وَلا يمرُّ زمنٌ طويلٌ إِلّا وَكلُّ مثقّفٍ، شرقيٍّ أَوْ غربيٍّ يلقى، أَنّى حَطَّتْ طائرتُهُ، مَنْ يحادثُهُ حديثُ مواطنيهِ، وَإِذا الشَرقُ وَالغربُ وطنٌ واحدٌ، وطنُ الإِنسانِ، وَطنُ الثقافةِ وَالتفاهمِ وَالسلامِ.

يوحنّا قمير
مجلّة الحكمة - العدد الأول -  كانون الثاني 1995

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق