سياسة قسم اللغة العربيّة

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

أولادنا بألف خير - نصّ للصفوف الثانويّة



قبل عهد كوكبنا الدوّار حول الشمس بالتكنولوجيا التي تفاجئنا بين الساعة والأخرى بمولود جديد، يشغل الناس من أوّل الدنيا إلى آخرها، لا سيّما على صعيد وسائل الإعلام والإعلان وتبادل المعلوماتـ وقياسًا بيومنا هذا وبالغد الآتي بتحديّات أكبر، نستطيع القول: إنّ مهنة التعليم لم تكن مهنة المتاعب. ومنذ زمن التعليم بالصوت في ساحات المدن التاريخيّة، مع المعلّم الكبير سقراط، إلى زمن الحبر والورق وقضيب الرمّان، تحت سنديانة الضيعة اللبنانيّة، كان المعلّم أميرًا يكتفي بتوزيع جواهر خزائنه على الساعين إليها، هذه الجواهر التي لا وجود لها خارج أسوار إمارته. ومن هنا نفهم مغزى كلام فلّاح لبنايّ موجَّهًا إلى معلّم ابنه: "اللحم لَ إلك والعضم ل إلنا" وهو بكل تأكيد يقصد لحم ابنه وعظمه.
أمّا اليوم، وأمام التغيّر الأكبر والأسرع في تاريخ الإنسان على وجه الأرض، فقد صار التعليم مهنة تعب بامتياز، ورجاء بامتياز. ويطرح السؤال نفسه بشقّين: أيّ تلميذ أمامنا؟ وأيّ معلّم نريد؟
وفي بداية الإجابة عن الشقّ الأوّل، لا بدّ لي من مخالفة كلّ ندّابي القيم عندنا، ورثّائي جمالات إنسان الأمس، لأنّني لا أوافقهم الرأي في أنّ الإنسان قد مات في الإنسان، وإنّ أولادنا اليوم هم أقلّ منّا إيمانًا ووطنيّة واحترامًا... لا بل إنّني أرر إنسانًا جديدًا وجميلًا ولذيذًا. والإيمان، بعد عهد الناس بالمعرفة، صار أحلى، فلا أجمل من مخلوق ينسج بينه وبين خالقه علاقة حميمة، بعيدًا عن الخوف واصطكاك الأسنان التوراتيّ؛ والالتزام بالوطن على أسس الحريّة وحقوق الإنسان والخروج من سراديب العشائريّة والعائليّة والمناطقيّة، وصولًا إلى مفهوم الحزبيّة، لهو غاية الكمال في حبّ الأوطان؛ والاحترام الذي لا يلده الخوف بل العلاقة المتوّجة بالمحبّة والحوار وحده الاحترام الحقيقيّ...
إذًا، علينا أوّلًا ألّا نكون قليلي الرجاء والإيمان بأولادنا، وألّا نحمّلهم تبعات ذنب لم يقترفوه، فهم أولاد زمن تحوّلات كبرى، من الممكن أن نجعلهم ضحاياه، ومن الممكن أن والواجب أيضًا أن نستقبلهم خمرًا جديدة، في جرار جديدة، ونرى فيهم استمراريّة الجمال وديمومته، الجمال الذي لا يموت لأنّ الله لا يموت.
تلميذنا، اليوم، إنسان طيّب، وهو وإن قصد المدرسة طلبًا للمعرفة، فهو قادر على الذهاب إليها وفي جعبته طرائد جميلة ونادرة، ليس في حاجة إلى مطاردتها في السماء الخضراء المستلقية على حائط الصفّ، والمعلّم ما عاد بئر المعرفة الوحيدة، وصار الأمير العاديّ والشعبيّ يسير بين الناس بلا حرّاس، يعلّم ويتعلّم في آن واحد، ويتهيّ الوقفة، كلّ صباح، بين طلّابه، بقدر ما يعي المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتقه.
تلميذ اليوم ليس يحتاج في المدرسة إلى أن يعرف أكثر مما يحتاج إلى أن يشعر بالحبّ الذي لا يسمح له بالتغيّب عن الصفّ، والحبّ لا ينفصل عن الفرح، وإنّ معلّمًا ليس في وجهه مساحة مخصّصة لابتسامة دائمة، سوف يبقى باحثًا عن مفتا ذهبيّ لبوّابة صعبة لا تستجيب لأيّ شكل من أشكال العبوس والفوقيّة والتسلّط. طلّابنا ينشدون الحنان، ويخشون على ريش أجنحتهم منّا، ويخافون أن نصادر ما يحبّون موما يرغبون فيه من أفكار ومعارف هي في طريق صيرورتها نهجَ حياة وبطاقةَ هويّة لهم...
وفي قراءتنا لتلميذ اليوم، تتشكّل أمامنا صورة المعلّم الذي نريد.
نريد معلّمًا يعرف حجم العاصفة العملاقة التي تهبّ على الدنيا من شاشات الفضائيّات والإنترنت.
نريد معلّمًا يعرف أنّه يواجه إنسانًا جديدًا جاهزًا لأن تكون له حديقة قيمٍ يتلاءم تجلّيها وتجسيدها مع عصره، ومع النضج المعرفيّ. ومن الخطأ أن نثبت رأسه تحت سقف المعايير القيميّة التي كانت سارية المفعول في الأمس.
فلنعترف بأنّ الدنيا تغيّرت كثيرًا، ولنعترف بأنّ المعرفة زاد خطرها على الإنسان إن لم تُقرن بالمحبّة والفرح، ولنعمل معًا على إنسان ممتلئ أحاسيس ومشاعر نبيلة، لأنّ التكنولوجيا امرأة لا يجفّ لها رحم، وتزداد قدرة على الإنجاب يومًا بعد يوم. وفي صقيع عالم الآلة والأسلاك والحديد لا رهانَ إلّا على جمرة العاطفة لتوسيع مساحة الشعور في الإنسان وتنبيه كلّ خلاياه.
نحن مدعوون، اليوم، إلى الحبّ الكبير وليس إلى المعرفة الكبيرة، وعلينا أن نكثّف في المدارس نوافير الحنان. والمعلّمون وحدهم لا يستطيعون اجتراح المعجزة إذ إنّ الإدارات والأهالي مطلوب منهم التجذيف في الاتّجاه عينه.
أولادنا بألف خير، وهم أفضل منّا بكثير، فتعالوا نضيء لهم صدورنا واحات أمان، ولترعَ نجمة الحبّ هذا الإبحار الصعب والجميل.


قزحيا ساسين

صحيفة النهار
الاثنين 22 آذار 2004